هلّ اليوم العاشر من رمضان، محمّلاً بأجمل ذكريات العمر؛ لي ولعموم شعب مصر العظيم، ورغم تكرار تناول بعض من أحداث تلك الذكرى العطرة، في مختلف كتاباتي، في سنوات طويلة، إلا أنني أجد في الكتابة عنها، مرة أخرى، شرف وفخر وعزة.
بدأت الأحداث يوم الخامس من يونيو من عام 67، وأنا وزملائي بمنطقة “الكونتيلا” في سيناء، وعلى بعد مئات الأمتار القليلة منا، يرتفع العلم الإسرائيلي على برج المراقبة … وفجأة في صباح ذلك اليوم، أغار العدو الإسرائيلي على مطاراتنا، ودمر معظم قواتنا الجوية، وهي على الأرض. فصدرت الأوامر العسكرية، بالانسحاب غرباً إلى “مدينة نخل”، ونحن بلا غطاء جوي، وبوصولنا إلى “نخل”، توجهنا إلى “ممر متلا”، فحاصرنا العدو الإسرائيلي، داخل الممر، وبدأ في اصطياد القوات المصرية، والمعدات والأسلحة، فبدأنا الانسحاب مترجلين، في اتجاه قناة السويس، ووصلنا لضفافها يوم التاسع من يونيو لنعود للضفة الغربية بقوارب مطاطية من عناصر المهندسين، بعدما دمرت الطائرات الإسرائيلية جميع الكباري على قناة السويس.
وبحلول الخامسة مساءً كان اليوم قد ازداد سواداً، حيث دمر الإسرائيليين 80% من أسلحة ومعدات الجيش المصري في سيناء، ورفع العدو العلم الإسرائيلي على الضفة الشرقية للقناة، بينما قواتنا تصارع في الصحراء من أجل البقاء، وصوت الرئيس عبد الناصر يعلن التنحي عن الحكم، إلا أن الشعب المصري العظيم رفض الاستسلام للهزيمة، ورفض تنحي الرئيس. وبدأت مرحلة جديدة من التلاحم، لإعادة بناء الجيش المصري، على مدار 6 سنوات، هي عمر حرب الاستنزاف، التي شهدت أعظم المعارك المصرية، في التاريخ، فكان منها ملحمة رأس العش، في يوليو 67، التي نجح فيها 30 جندي من الصاعقة، في صد الهجوم الإسرائيلي لاحتلال مدينة بورفؤاد، وفي 21 أكتوبر من نفس العام، نجحت البحرية المصرية في تدمير وإغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات، في أول عملية بالصواريخ في التاريخ العسكري بالعالم.
لقد تجرعنا مرارة الهزيمة، خلال السنوات الست من حرب الاستنزاف، لنتذوق حلاوة وعظمة النصر في العاشر من رمضان؛ فنجحنا في إعادة بناء الجيش المصري، وإعادة تسليحه، وتم بناء حائط الصواريخ المصري، الذي لولاه ما تمكنا من عبور القناة، في غياب تام لقوات العدو الجوية، وتدربنا على استخدام الأسلحة الجديدة، وتدربنا على عبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف، انتظاراً ليوم طال الشوق إليه، لنعيد الأرض والكرامة للشعب المصري ولجيشه العظيم.
خططنا لحرب العاشر من رمضان، بعقول مصرية مخلصة، تحدت كافة الصعاب، ولم تستسلم ليأس، حتى عندما أفاد الخبراء السوفييت بأن تدمير خط بارليف يحتاج لقنبلة ذرية، فدمرناه بالمياه، بفضل من الله ثم بفضل تضافر جميع إدارات وعناصر القوات المسلحة المصرية في حسن التخطيط للحرب بالتعاون مع الجيش السوري، ليتم مهاجمة خط بارليف على الجبهة المصرية، بالتزامن مع مهاجمة دفاعات إسرائيل في الجولان، ليختل توازن العدو. وضع خطة تدمير خط بارليف واقتحام قناة السويس الفريق سعد الشاذلي، رحمه الله، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، حينئذ، فيما عرف باسم “التوجيه 41″، الذي يشمل خطة تفصيلية لعبور 12 موجة بالقوارب المطاطية، لاقتحام القناة، وتدمير خط بارليف، وسد أنابيب النابالم، التي ثبتها العدو الإسرائيلي في مجرى القناة، لضخ النابالم الحارق على الأفراد والمعدات، وكل ما يحاول عبور قناة السويس.
وأذكر بينما نحن طلبة بكلية أركان حرب، لا نعلم بموعد الحرب، أن زارنا الفريق سعد الشاذلي، وقضي يومين كاملين بيننا، لمناقشة جوانب “التوجيه 41″، عل منا من يشير عليه بتعديل لصالح خطة العبور. كما أذكر حكمة اللواء صلاح فهمي، في اختيار يوم السادس من أكتوبر، ويجب أن نوضح دائماً حجم الهزيمة لكي تظهر لنا حلاوة وعظمة النصر في العاشر من رمضان لبدء هجومنا على العدو الإسرائيلي، لتوافق اليوم مع “عيد الغفران” في إسرائيل، وهو عيد ديني، تتعطل في المصالح والتحركات، فضلاً عن توافقه مع اليوم العاشر من رمضان، والذي لم يتوقع العدو أن تشن القوات المصرية هجومها فيه، لما له من قدسية وطبيعة خاصة.
وجاء العاشر من رمضان، وأنا في مركز العمليات المركزية للقوات المسلحة، بوجود الرئيس محمد أنور السادات، بالطبع، ليباشر اللحظات الأخيرة من تجهيزات الهجوم، وفي الثانية ظهراً عبرت 220 طائرة مصرية قناة السويس، ونجحت في تنفيذ الضربة الجوية ضد الدفاعات الإسرائيلية، ومراكز القيادة والسيطرة الإسرائيلية، ومواقع المدفعيات والاحتياطات. وعلى الفور، بدأ القصف المدفعي المصري، لتوفير الغطاء اللازم لقواتنا لاقتحام قناة السويس، بالقوارب المطاطية، وتدمير خط بارليف، وإسقاط نقاطه الحصينة، الواحدة تلو الأخرى. وقام الاحتياطي المدرع الإسرائيلي، بهجمات مضادة لقواتنا، إلا أن قواتنا المسلحة نجحت في صد وتدمير كل تلك الاحتياطات المدرعة، وأسرت عساف ياجوري، قائد اللواء المدرع الإسرائيلي، ومعه مئات الأسرى الإسرائيليين.
ورفرف العلم المصري، مرة أخرى، فوق أرض سيناء، وقفت جولدا مائير، رئيس وزراء إسرائيل، حينها، ومعها وزير دفاعها، موشى ديان، في المؤتمر الصحفي الشهير، يوم 9 أكتوبر 73، ليعلنا للعالم كله، هزيمة إسرائيل … فكان ذلك يوم فخر لجيش مصر العظيم، بعدما حقق أغلى انتصاراته في العصر الحديث، ونقش اسمه بأحرف من نور في سجلات العالم العسكري، لتتسابق، اليوم، جميع الجيوش الأجنبية لتنفيذ تدريبات عسكرية مشتركة معه، للاستفادة من خبرته … وصار هذا اليوم من أجمل ذكريات العمر ليس لي فحسب، وإنما لكل أبناء الشعب المصري العظيم.