للقرآن الكريم درر لوعظ البشر وإرشادهم لكسب الدارين الدنيا ثم الآخرة الباقية ومنها توجيه الخلق للحق ومعرفة الآخر وما يتعلق برفع الضيق ومنها: ۞ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82 المائدة)
يقول سبحانه وتعالى لنبيه محمدّ صلى الله عليه وسلم: لتجدن، يا محمد، أشدَّ الناس عداوةً للذين صدَّقوك وإتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام اليهودَ والذين أشركوا يعنى: عبدة الأوثان الذين إتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا ولتجدن أقربَ الناس مودةًّ ومحبة. و المودة “” المفعلة من قول الرجل: ودِدْت كذا أودُّه وُدًّا ووِدًّا، ووَدًّا ومودة إذا أحببته. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفرَ بن أبى طالب وإبن مسعود وعثمان بن مظعون، فى رهط من أصحابه الى النجاشى ملك الحبشة. فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص فى رهط منهم، ذُكر أنهم سبقوا أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الى النجاشىّ فقالوا إنه خرج فينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبيىُ! وإنه بعث اليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءونى نظرت فيما يقولون! فقدم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمُّوا بابَ النجاشى فقالوا: إستأذن لأولياء الله ! قال، ائذن لهم، فمرحباً بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلَّموا، فقال له الرهط من المشركين: الا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيَّتك التى تحيَّا بها! فقال لهم: ما منعكم أن تحيونى بتحيتى؟ فقالوا: إنا حيَّيناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم: ما يقول صاحبكم فى عيسى وأمه؟ قال يقول: هو عبد الله وكلمةٌ من الله القاها الى مريم وروح منه ويقول فى مريم: إنها العذراء البتول . قال: فأخذ عوداً من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله، وتغيَّرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئًا مما أنـزل عليكم؟ قالوا: نعم! قال: اقرءوا! فقرءوا وهنالك منهم قسيسون ورهبانٌ وسائرُ النصارى فعرفت كلَّ ما قرأوا وإنحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول الآية.
يقول تعالى فى بيان أقرب الطائفتين الى المسلمين والى ولايتهم ومحبتهم وأبعدهم من ذلك: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا المائدة:82. فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين وأكثرهم سعيا فى إيصال الضرر اليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم بغياً وحسداً وعنادا وكفرا. وأقريهم مودة الذين قالوا إنا تصارا وذكر تعالى لذلك عدة أسباب: منها: أن منهم قسيسين ورهباناً أى علماء متزهدين وعباداً فى الصوامع متعبدين. والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققة ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود وشدة المشركين. ومنها: أنهم لا يستكبرون أى ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الأنقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم فإن المتواضع أقرب الى الخير من المستكبر. ومنها: أنهم إذا سمعوا ما أنزل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك فى قلوبهم وخشعوا للذى تيقنوه، فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون لله بالتوحيد ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب.
مر بنا أوقات كثيرة نشعر فيها بالحزن، وتضيق صدورنا، ونحاول أن نبحث عن مخرج من هذا الشعور، أو نجد حلًا للمشكلات التى تؤرقنا دون جدوى، لكن القرآن الكريم وضع لنا حلًا لكل شئ حيث يقول تعالى (..مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِنْ شَئ..) صدق الله العظيم.
قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَئ قَدْراً} [الطلاق: 2- 3]؛ أى أن الذى يتقى الله يـدفع عنـه المضرة، ويجعل لـه مخرجاً من أى كرب أو ضيق ويجلب له مـن المنفعـة بما ييسـره له مـن الرزق، والرزق إسم لكل ما يغتَذى به الإنسان، وذلك يعم رزق الدنيا والآخـرة. قد روى عن أبى ذر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم.
وقوله: {مَخْرَجًا} عن بعض السلف: أى من كل ما ضاق علي الناس، وهذه الآية مطابقة لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] الجامعة لعلم الكتب الإلهية كلها؛ وذلك أن التقوى هى العبادة المأمور بها، فإن تقوي الله وعبادته وطاعته أسماء متقاربة متكافئة متلازمة، والتوكل عليه هو الاستعانة به،فمن يتقى الله مثال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}
ومن يتوكل على الله مثال: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، كما قال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]. وقال:{عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة: 4]، وقال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإالَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]. ثم جعل للتقوى فائدتين: أن يجعل له مخرجا، وأن يرزقه من حيث لا يحتسب.
والمخرج هو موضع الخروج وهو الخروج وإنما يطلب الخروج من الضيق والشدة، وهذا هو الفرج والنصر والرزق، فَبَين أن فيها النصر والرزق كما قال: {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل تنصرون وترزقون الا بضعفائكم؟ بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم هذا لجلب المنفعة وهذا لدفع المضرة.
وأما التوكل فَبَين أن الله حسبه أى: كافيه، وفى هذا بيان التوكل على الله من حيث أن الله يكفى المتوكل عليه، كما قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] خلافا لمن قال: ليس فى التوكل الا التفويض والرضا. صدق الله العظيم واله ورسوله أعلم.