بعد أن أطاح الجيش بالبشير تتويجاً لأسابيع من المظاهرات الحاشدة عبّر تحالف قوى الحرية والتغيير عن هدف واحد للمتظاهرين فى كلمتين إثنتين هما: يسقط بسّ.
هاتان الكلمتان هما النسخة السودانية من شعار طالما ردّده الثائرون إبان الربيع العربى: الشعب يريد إسقاط النظام ولم يكن هناك إجماع يشار اليه بين السودانيين عما يلى إسقاط البشير، وقد تبدّى ذلك بوضوح على ضوء ما حدث خلال العامين الماضيين.
وكان الجيش وتحالف الحرية والتغيير قد إتفقا على تقاسم السلطة، مؤسسَين مجلس سيادة من المقرر أن يظل حاكماً للسودان مدة عام آخر، قبل الإنتقال لحكم مدنى بعد عقد إنتخابات.
وقد شهد تحالف الحرية والتغيير إنقسامات تمّخضت عن إنشقاق فصيل جديد ببيان رسمى سياسى جديد أُعلن عنه مؤخراً. شوهدت طوابير أمام المخابز فى ظل نقص القمح بفعل إغلاق الميناء الرئيسى شرقى السودان وثمة ما بين 80 الى 100 حزب سياسى فى السودان، يفرّق بينها من الخلافات أكثر مما تقدر عليه نوايا التقريب فضلاً عن الإتحاد. وعلاوة على ذلك، هناك جماعات سياسية مدنية أخرى تعارض إتفاق تقاسم السلطة. ناهيك عن حزب المؤتمر الوطنى الحاكم سابقاً والذى لا تزال كوادره باقية -بحسب ما يعتقد كثيرون- فى مؤسسات الدولة، لا سيما الجيش والأجهزة الأمنية. قبل أسابيع قليلة، خرجت مظاهرات ضد الحكومة وكانت تدعو الى حكم مدنى خالص.
ووجّه رئيس الوزراء المدنى للحكومة المؤقتة فى السودان، عبد الله حمدوك خطاباً متلفزاً يوم الجمعة الماضى دعا فيه الى الإتحاد وإنهاء حالة الإستقطاب بين الأحزاب السياسية المختلفة، والتى تشكل تهديداً خطيراً على عملية الإنتقال الى الديمقراطية. وتحيلنا الإنقسامات السياسية التى يشهدها السودان الآن الى توصيفٍ وضعه المؤرخ ريتشارد كوكيت فى كتاب له عن الطبقة السياسية فى السودان ما بعد الإستقلال. ويرى كوكيت أن التناحر السياسى الذى شهده السودان كان له ثمن هو التدمير الذاتى للديمقراطية. بعبارة أخرى، يعدّ الميل الى التفرّق والإنقسام بمثابة كعب أخيل السياسة السودانية.
وقد ساعدت عوامل عدة بينها الزمن، والفشل مجدداً فى الوصول الى حلٍ وسط وبناء إجماع فى الآراء – ساعدت فى تمهيد الطريق أمام الجيش للطمع فى دور أكبر وللإنقلاب بذريعة إنقاذ البلاد من الفوضى التى سبّبها إختلاف السياسيين. ومما زاد بواعث القلق، ما كشفه حمدوك، الذى نجا قبل 19 شهراً من محاولة إغتيال، عن أن الإنقسامات ليست محصورة على المعسكر المدنى وإنما هى قائمة كذلك فى صفوف الجيش. وظهرت على مدى الأشهر القليلة الماضية دلائل على تلك الإنقسامات والتى قادت الى مظاهرات بدأت يوم السبت الماضى وشهدت توجيه دعوات الى الجيش بطرد الإدارة المدنية والإنفراد بقيادة الفترة الإنتقالية. ويتزايد اعتقادٌ بأن الجيش يبحث عن ذرائع للمماطلة فى الوفاء بالتزاماته مع إقتراب موعد تسليم السلطة الى قيادة مدنية.
ومن هنا مبعث الشك فى وقوف الجيش وراء الكثير من الإضطرابات التى شهدها السودان مؤخراً ومحاولة الإنقلاب، وإغلاق الميناء الرئيسى شرقى البلاد- على نحو دفع البعض – وبينهم فنانو الكاريكاتير- إلى القول إن الثورة على وشك السرقة. وتواتر ظهور شخصيات بارزة من الجيش مُبدية إنتقادها العلنى للسياسيين المدنيين، مع التأكيد على عدم الرغبة فى إغتنام السلطة – وأن الهدف الوحيد هو إستقرار السودان ورفاهيته. هذا ما يعلنه الجيش دوما. ومن بين أبرز الأصوات فى الجيش يظهر صوت محمد حمدان دقلو الشهير بـ حميدتى نائب رئيس المجلس السيادى. وبرز إسم دقلو كزعيم لميليشيا الجنجويد سيئة السمعة والمتهمة بإرتكاب فظائع فى إقليم دارفور عام 2003.
وتتخذ الجنجويد حالياً إسماً جديداً هو قوات الدعم السريع ولا تزال علاقة هذه القوات بالقوات النظامية للجيش السودانى موضع خلاف. وحذفت شركة فيسبوك الأسبوع الماضى أكثر من 700 حساب على علاقة بقوات الدعم السريع ويُشتبه فى بثها أخباراً كاذبة عن السودان.
وأمام جمع من الناس مؤخراً، إتهم حميدتى السياسيين بالطمع فى الكراسى أو السلطة – بخلاف الجنود أمثاله ممن لا يهمهم سوى الشعب والوطن. وأنذر حميدتى قائلاً إذا كان السياسيون يهددون بتنظيم مظاهرات فى الشوارع فإن للجيش شارعه الخاص. وعلى أثر تلويح حميدتى، خرج متظاهرون داعمون للجيش الأسبوع الماضى داعين الى حكومة جديدة ومطالبين بقيادة الجيش للفترة الإنتقالية. لكن الصورة مع ذلك معقدة؛ فلم يكن كل الذين خرجوا فى مظاهرات السبت الماضى داعمين للحكم العسكرى.
أيضاً هناك غاضبون من إنشقاق صف تحالف الحرية والتغيير والذى إستبعد جماعات أخرى من المشاركة فى العملية الإنتقالية. هذه العوامل غذّت التكهنات بأن ثمة إندفاعاً صوب المناصب والمصالح الخاصة.
وقد تسفر مظاهرات الخميس فى السودان عن مواجهات خطيرة قد تخرج عن السيطرة وتهدد إتفاقية تقاسم السلطة المبرمة عام 2019 والتى حالت دون إنزلاق السودان الى مستنقع من الصراع طويل الأمد.