لواء د. سمير فرج
متابعة عادل شلبي
يهل علينا شهر أكتوبر ومعه أجمل ذكريات النصر عام 73 ولكن قبل تحقيق النصر العظيم يجب أن نتذكر ست سنوات من حرب الاستنزاف.. وهناك مقولة لدينا نحن العسكريين وهي “أن الحرب تعلم الحرب”… أي أن الجيوش التي لم تشترك في أي حروب حديثة دون أن تكون لديها الخبرة العملية في ميدان المعركة التي يمكن أن نتعلم منها الكثير وهذا يفسر لماذا تطلب العديد من الدول الآن تنفيذ تدريبات عسكرية مشتركة مع القوات المصرية بل أن مراكز الدراسات الاستراتيجية أقرت أن القوات المسلحة المصرية الآن هي أكثر دولة في العالم تجري تدريبات عسكرية مشتركة مع دول أخري حيث تريد هذه الدول أن تستفيد بخبرة القوات المسلحة المصرية التي خاضت أربعة حروب رئيسية في الفترة الماضية في الصراع العربي الإسرائيلي في 56،حرب 67، وحرب الاستنزاف، وحرب 73 وحرب خامسة في تحرير الكويت.
ولقد جاءت أهمية حرب الاستنزاف والتي بدأت بمعركة راس العش يوم 1 يوليو عام 1967، عندما تقدمت المدرعات الإسرائيلية لاحتلال مدينة بورفؤاد وتصدت لها فصيلة من الصاعقة المصرية بقوة 30 مقاتل في منطقة راس العش وأوقفت تقدم القوات الإسرائيلية بعد تكبدها خسائر جسيمة وأصبحت معركة راس العش رمزاً للصمود المصري بعد هزيمة 67.
ولقد بدأت مرحلة حرب الاستنزاف ببناء الدفاعات المصرية غرب قناة السويس بعد انسحاب الجيش المصري من سيناء حيث تركزت المرحلة الأولي في حرب الاستنزاف إلي بناء خطوط دفاعية غرب قناة السويس والتي سميت بالخطة الدفاعية 200 تم فيها تنظيم خطوط دفاعية كاملة لمنع العدو من اختراق قناة السويس والتقدم غرباً.. وفي نفس الوقت بدأت القوات المصرية إعادة تسليح عناصرها بالأسلحة التي كانت تصلها من الاتحاد السوفييتي بدلاً من الأسلحة التي فقدتها مصر في سيناء في حرب 67 وعلي سبيل المثال تم تحويل جميع فرق المشاة الي مشاة ميكانيكي بتسليحها بعربات قتال مدرعة حديثة برمائية.. ولقد سميت هذه الفترة بمرحلة الصمود التي استغرقت المدة من يونيو 1967 إلي أغسطس 1968 كذلك تم إعادة تنظيم الجيش المصري بإنشاء قيادة الجيش الثاني والثالث وإنشاء قيادة قوات الدفاع الجوي، ثم جاءت المرحلة الثانية من حرب الاستنزاف التي اطلق عليها الدفاع النشط حيث تم فيها الاشتباك مع القوات الإسرائيلية خلال مرحلة بناء خط بارليف وحققت المدفعية المصرية في هذه الفترة خبرة كبيرة من أعمالها القتالية وخلال هذه الفترة استشهد الفريق عبد المنعم رياض رئيس اركان حرب القوات المسلحة المصرية يوم 8 مارس عندما توجه بنفسه الي الجبهة ليتابع ويري نتائج معركة تدمير خط بارليف بنيران المدفعية المباشرة وقرر أن يتقدم الي الخط الأول ليري عن قرب نتائج الاشتباكات فانهالت عليه نيران القوات الإسرائيلية وسقطت أحد دانات المدفعية بجواره واستشهد متأثراً بالشظايا القاتلة.
ثم جاءت مرحلة جديدة من حرب الاستنزاف اطلق عليها مرحلة الردع حيث تمكنت بعض القوات المصرية من عبور قناة السويس والقيام بعمليات اغارة كمائن وهذه المرحلة اكتسبت القوات المصرية ما يطلق عليه التطعيم للمعركة وارتفعت الروح المعنوية للجيش المصري وتخطي المقاتل المصري حاجز الخوف.
ودارت في هذه الفترة 22 معركة جوية اشتركت فيها 120 طائرة مقاتلة إسرائيلية في مواجهة 110 مقاتلة مصرية وكانت خسائر المصريين 28 طائرة وخسائر العدو 14 طائرة وكان ذلك بسبب أن معظم الطيارين المصريين حديثي الخبرة لكنهم اكتسبوا المهارة من هذه العمليات الجوية .
أما العمليات البرية فلقد كانت 44 عملية ما بين اغارة وكمين نفذت 5 اعمال في عمق إسرائيل ونفذت إسرائيل 28 عملاً إيجابيا منها 16 عملاً من العمق المصري واستشهد من الجانب المصري 16 ضابط و 150 رتب أخري بينما خسرت إسرائيل 133 قتيل و320 جريح طبقاً لما صرح به موشي ديان ويمكن القول أنه في مرحلة حرب الاستنزاف نجحت مصر في تدمير المدمرة ايلات أمام شواطئ بورسعيد. وعليها 100 فرد وطلبة الكلية الحربية الإسرائيلية في أول عملية زوارق صواريخ في التاريخ العسكري ويرقد حطام المدمرة الآن في قاع البحر المتوسط أمام ساحل بورسعيد.. كذلك نجحت مصر في إغراق الغواصة داكار التي حاولت مهاجمة ميناء الإسكندرية كذلك نجحت قواتنا البحرية باستخدام الضفادع البشرية بالتعاون مع المخابرات العامة بتدمير الحفار الإسرائيلي أمام دولة ساحل العاج قبل أن يصل الي البحر الأحمر حيث كانت إسرائيل تنوي استخدامه في التنقيب عن البترول هناك لذلك أمر الرئيس عبد الناصر بتدميره قبل الوصول الي البحر الأحمر.
كما تم الاغارة علي ميناء ايلات الإسرائيلي بمعرفة الضفادع البشرية المصرية كذلك نجحت القوات المصرية خلال فترة حرب الاستنزاف في بناء حائط الصواريخ المصري الذي كان أحد الأسباب الرئيسية في نجاح عملية العبور واقتحام خط بارليف ولعل أسبوع تساقط طائرات الفانتوم الإسرائيلية في حرب الاستنزاف كان أكبر ضربة لإسرائيل في تاريخها العسكري وخلال فترة حرب الاستنزاف تم تهجير مدن القناة بورسعيد والاسماعيلية والسويس لكي يعطي أفراد هذا الشعب المثل في التضحية والقدوة الوطنية.. وخلال حرب الاستنزاف بدأت القوات المصرية في التدريب علي عمليات العبور واقتحام خط بارليف مع استمرار وجود القوات العسكرية المدافعة علي خط قناة السويس وبدأت القوات الجوية المصرية في بناء دشم خرسانية للطائرات في جميع القواعد العسكرية كذلك تدريب اعداد كبيرة من الطيارين ليتضاعف العدد 3 مرات قبل البدء في حرب أكتوبر 73.
أما علي الجانب المصري فإننا نقول بكل ثقة خاصة أنني كنت واحداً من المشاركين في هذه الفترة علي الخط الأمامي في منطقة جنوب البحيرات أننا تعلمنا الكثير والكثير خلال فترة حرب الاستنزاف في كل المجالات سواء المشاة أو المدرعات أو المدفعية وباقي عناصر القوات المسلحة في العمليات الدفاعية وعمليات التطعيم للمعركة وجاءت مرحلة التخطيط لحرب أكتوبر 73 خلال فترة حرب الاستنزاف لكي تكمل تلك الصورة الرائعة للمقاتل المصري في الصمود أمام صلف الغرور الإسرائيلية وتكوين وبناء الدفاعات المصرية ثم التحول لاستنزاف ذلك العدو الإسرائيلية ثم التخطيط لإدارة حرب الشرف والكرامة لذلك نجمل القول أن حرب الاستنزاف كانت هي البوتقة التي تعلم فيها الجيش المصري فنون الحرب الحديثة ومن خلالها نجح في تحقيق النصر في حرب أكتوبر المجيدة وأنه لولا حرب الاستنزاف لما نجح الجيش المصري في تحقيق هذا النصر العظيم في أكتوبر 73.