قال الكاتب حسن إسميك، إن المكانة الرفيعة لمكة والتي قامت على أسس ثلاثة (دينية وفكرية واقتصادية)، أدّت إلى أن تصبح هذه البقعة ذات التضاريس الصعبة قبلة للهجرة من كافة أنحاء العالم، ناهيك عن حجيجها الوافدين كل عام، وزائريها المعتمرين كل يوم، ولقد شكّل موسم الحجّ والعمرة بنية اقتصادية حيوية، ومحطة جذب مهمة للكثير من الاستثمارات منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
تابع: ومن يعود إلى ما كتبه الرّحالة الفرنسي “جول جرفيه كورتيلمون” عندما زار مكة المكرمة في رحلته الاستكشافية عام 1931 ويُقارنه بمكة اليوم، يعي تماماً مقدار التغيير الحاصل في المشهد العمراني للمدينة، حيث كتب حينها: (فجأة عند مفترق طرق، دخلنا إلى المدينة المقدسة، إنها تختبئ بين جبلين قريبين جداً من بعضهما، وعندما تجتاز الشارع الأول تدرك أنك وصلت). أما اليوم، فعند اجتيازك للجبلين، لا تلمح من الموقع المذكور أعلاه سوى الأبراج العالية تحيط بالبيت الحرام من كل جهة، حتى إذا ما وصلت إلى أخفض نقطة من الأرض هناك، حيث صحن الطواف يحيط بأركان الكعبة الأربعة، شعرت بأن هذه الفسحة متصلة بالسماء خلال عمود من نور لا يخفت في ليل أو نهار.
ولفت إلى أنه منذ أن انضمت مكة إلى سلطان الدولة السعودية، حين دخلها الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود سنة 1924 وجيشه معتمراً لا محارباً، انتقلت مكة إلى طور تاريخي مختلف جداً عن كل الأطوار التاريخية التي سبقته منذ الدولة الأموية وحتى بدايات القرن العشرين، فكان لا بد لهذه المدينة الضاربة في عمق تاريخ ووجدان المؤمنين أن تواكب عصر الحداثة التي عمّت جهات الدنيا الأربع.
وأوضح إسميك، أن تطور وسائل السفر سينعكس مباشرة على زيادة عدد زوار المدينة وحجيجها، وهي زيادة لن تكون طفيفة أو متوسطة، بل سرعان ما ستتضاعف مئات المرات خلال عقود قليلة. وأمام هذه الطفرة في زيادة الزوار لا بد من طفرة مقابلة في توسعة الحرم المكي وبنائه، ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك في بقعة صغيرة ذات طبيعة تضاريسية صعبة جداً؟ لقد كان الأمر يحتاج لمعجزة بكافة المقاييس، وقد حصلت هذه المعجزة!
أضاف أن تاريخ توسعة الحرم المكي له أهمية فائقة في حياة هذه المدينة المباركة، وفي تاريخ الإسلام أيضاً، بدأت هذه لأول مرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واصطدمت منذ البداية بمشكلة العقارات المجاورة للكعبة، حيث يمتنع أصحابها في كل مرة عن التنازل عنها، ويرفض أغلبهم إخلاءها ولو دفعت له أموال كثيرة، ومن عساه يبيع جيرة الكعبة راضياً! ولكن رغم ذلك يبقى القول الفصل في التنازل أو البيع لولي الأمر، وهذا ما أقره وعمل به عمر بن الخطاب منذ التوسعة الأولى حين قال لمالكي البيوت حول الكعبة: (إنما نزلتم على الكعبة وهو فناؤها، ولم تنزل عليكم)، أما من رفض البيع أو امتنع عن قبض الثمن فقد وضع عمر أموالهم في الكعبة حتى أخذوها في نهاية الأمر.
وأشار إلى أن أعمال التوسعة والترميم تتالت طيلة الثلاثة عشر قرناً الماضية قبل أن تنضم مكة إلى حكم الدولة السعودية وكان الحرم المكي حينها يتسع لخمسين ألف مصلٍ. سارع مؤسس المملكة الملك الراحل عبدالعزيز آل سعود، إلى تأسيس مجلس إدارة الحرم سنة 1925 للعناية بشؤون المسجد وأماكن الحج الأخرى، واشتملت كل الأعمال في عهده على عمليات الإصلاح والترميم وبناء المظلات والإنارة الكهربائية بعد أن وصلت الكهرباء للمدينة، ولم تبرز حينها الحاجة للتوسعة بعد.
استطرد، ولكن بعد الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي شهدته الدولة بدأ عدد الحجيج بالتزايد، فقامت التوسعة الأولى في عهد الملك سعود، وصار المسجد يتسع لأربعمئة ألف مصل في وقت الذروة، ثم تتالت عمليات التوسعة والبناء حتى حولت المسجد الحرام إلى تحفة عمرانية فريدة لا مثيل لها على وجه الأرض.
وصار المسجد يتسع لملايين المصلين، ويستطيع استيعاب أكبر كثافة بشرية تشهدها الأرض كل عام خلال أيام الحج الستة بدءاً بيوم التروية ثم يوم عرفة وانتهاء برابع أيام عيد الأضحى المبارك.
لا يمكن للحديث عن مكة ومسجدها ومشاعرها المقدسة أن ينتهي أبداً، فلقد أصبحت هذه المدينة أكبر حدث تاريخي مستمر، وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. كما أنها ستبقى مدينة الأمن والخير التي استجاب الله دعوة نبيه إبراهيم لها: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [سورة البقرة:126].