تشرفت وأنا رئيساً لدار الأوبرا المصرية أن أترأس الوفد المصري الثقافي، إلى الصين، رداً على الأسبوع الثقافي الصيني، الذي عُقد في مصر، وحشدت له الصين أكثر من 170 من مثقفيها وفنانيها، والأوركسترا السيمفوني الصيني، ونماذج مختلفة من فنونها الشهيرة، كعروض الأكروبات. والحقيقة أنه كان احتفالاً مبهراً، جذب المصريين للالتفاف حوله. لما حان دور مصر في تبادل فنونها، شكلت وفداً يضم حوالي 130 من كبار فناني مصر ومثقفيها، كان من بينهم الراحل نور الشريف، وزوجته الفنانة بوسي، ومجموعة من مبدعي مصر في فنون النحت والرسم، يصحبهم أوركسترا أوبرا القاهرة وفرقة الرقص الحديث للمبدع وليد عوني، بالإضافة لمعرض للآثار المصرية، حٌشدت أمامه طوابير الشعب الصيني، لعدة كيلومترات لشغفهم، مثل باقي شعوب العالم، بالحضارة المصرية العريقة.
عند وصولنا إلى بكين، كان في استقبالنا نائب وزير الثقافة الصيني، والسفير المصري، المتميز، محمد حفني، فاتجهنا، مباشرة إلى مقر إقامتنا في “فندق بكين”، أحد معالم المدينة، وواحداً من أفخم فنادق العالم، المخصص لاستقبال ملوك ورؤساء الدول، وكبار الشخصيات، وهو ما اعتبرته تكريماً لمصر، ممثلة في كرئيس للوفد، ومعي الدكتور فوزي فهمي، رئيس أكاديمية الفنون، حينها. وعند وصولنا للفندق كان في استقبالنا مدير الفندق، الذي أظهر حفاوة بالغة في الترحيب بنا، وأشار إلى بهو الفندق، ذو الأرضية الرخام المبهرة، قائلاً أن ذلك الرخام مصري، من قلب سيناء.
ثم صحبنا في جولة بالفندق، وعلى جانب المدخل، وجدنا لوحة مكتوب عليها “هذا الرخام من محاجر سيناء في مصر وتم تصنيعه وتدويره في المصانع الصينية”، فشعرت بالفخر أن هذا المنتج من بلادي، وظللت أحكي هذه القصة، بعد عودتي إلى مصر، مشيداً بأن أفخم فنادق العالم يستخدم الرخام المصري. إلى أن قابلني أحد الأصدقاء، يوماً، وهو من العاملين في مجال الرخام، ليراجعني في أفكاري، قائلاً أننا، الحقيقة، في مأساة لا تستوجب الفرح؛ فنحن نبيع بلوكات الرخام “الغشيم” بملاليم الفلوس، وكررها “ملاليم الفلوس”، إلى الصين وتركيا وإيطاليا، حيث يتم تصنيعه، وإعادة تصديره إلى مصر بآلاف الجنيهات، مضيفاً، أن تلك مهزلة، أن نعجز عن الاستفادة بمواردنا الطبيعية، بإضافة قيمة عليها، من خلال مراحل التصنيع والتقطيع والجلي، لنخرج منتجاً نهائياً بتلك المواصفات العالمية.
مرت السنوات، ويبدوا أن الأمر نما لعلم السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بأننا نصدر بلوكات الرخام المصري الخام، بملاليم الفلوس، لنستورده، مصنعاً، بآلاف الجنيهات، ونحرم مصر الاستفادة من فرصة تصنيعه بمصر، وتصديره كمنتج نهائي، وتحقيق ما تستحقه من مكاسب طائلة، فقرر السيد الرئيس خوض المعركة، ووجه سيادته بحظر تصدير بلوكات الرخام المصري.
ثم حدثت المفاجأة أثناء إنشاء مدينة الجلالة، وسط جبال منطقة العين السخنة، بما استدعى شق الطريق في هضبة الجلالة، وهو يتم باستخدام كميات من المتفجرات لأعمال النسف، تلك المهام التي تُكلف بها القوات المسلحة؛ فتم نسف ارتفاعات تزيد عن 220 متر، أي ما يعادل ارتفاع مبنى مكون من نحو 70 طابق، فإذا بنا نكشف عن ثروة كبيرة من الرخام، بأنواع جديدة، تختلف عما هو موجود بجبال سيناء، سواء في الأنواع أو الألوان، فتقرر إقامة “مدينة كنوز الجلالة للرخام”، بهذه المنطقة، وهي عبارة عن مجمع صناعي يضم 13 مصنعاً لتصنيع الرخام، تم تأسيسها بأحدث ماكينات الرخام، في العالم، من “شركة بيدروين”، بإيطاليا، إذ يضم المصنع الواحد 167 ماكينة إيطالية، كما تم إنشاء مركزاً للإبداع، لإخراج تصميمات عالمية للرخام الجديد، يعمل في تلك المدينة الصناعية، حوالي 2000 موظف، مدني، تم تدريبهم على أعلى مستوى.
ولتتكامل المنظومة، بإحياء الصناعة على مستوى القطاع الخاص، كانت البداية بتطوير المصانع القديمة، في منطقة شق الثعبان، فتم تحويلها إلى منطقة صناعية للرخام والجرانيت، مع تنفيذ توجيهات السيد الرئيس بإنهاء كافة مشاكل المنطقة، ليتفرغ القطاع الخاص لإنتاج الرخام المصري المتميز، فتم تسوية أوضاع تلك المصانع، مع توفير كافة المرافق المطلوبة لهذه المنطقة الصناعية المطورة، من كهرباء ومياه وطرق، ولأجلها أنشئ طريق خرساني، جديد، متفرع من الطريق الدائري الأوسطي، يصل إليها مباشرة، لمراعاة سلامة شبكة الطرق والكباري، في جنوب القاهرة، لكي لا تتعرض للتلف بسبب حمولات بلوكات الرخام.
ولتنظيم أعمال ذلك القطاع الحيوي، صدر قرار بضم صناعات الرخام في منطقة شق الثعبان، التابعة للقطاع الخاص، إلى الاقتصاد الرسمي، لتيسير تصدير منتجها النهائي للخارج، بعد توفيق أوضاع مصانعها، ويتم الاستفادة من نواتج تصنيع الرخام في صناعات تكميلية، لتكتمل المنظومة من الناحية الاقتصادية. وفي إطار خطة التسويق داخلياً، أنشأت القوات المسلحة المصرية، معرضاً دائماً، يضم منتجات الرخام المصري، سواء التابعة لجهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، أو منتجات القطاع الخاص من منطقة شق الثعبان، ليصبح ذلك المعرض الرئيسي لمنتجات الرخام المصري الجديد.
ومع ازدهار خطة التنمية العمرانية التي تشهدها ربوع البلاد، وجه السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، باستخدام منتجنا الوطني، من الرخام المصري، في جميع المباني الحكومية، سواء في العاصمة الإدارية الجديدة، أو مدينة العلمين الجديدة، أو باقي المدن التي تنضم إلى خريطة مصر، الواحدة تلو الأخرى. فسبحان من وهب مصر تلك الثروات العظيمة، ومن منّ عليها بالأبناء المخلصين، الذين يحسنون إدارة مواردها، لتنعم مصر، وشعبها، بخيرات بلادهم، وتذيع شهرة منتجاتها في كل دول العالم.