طبقاً لمفاهيم علوم الاستراتيجية والأمن القومي، يُعرف الاحتواء السياسي بأنه قدرة الدولة على تكثيف علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وغيرهم، مع الدول الأخرى، في حال وجود صراع أو نزاع ضد دولة معينة. وينقسم الاحتواء السياسي إلى نوعين؛ الأول هو الاحتواء السياسي الإقليمي، والآخر هو الاحتواء السياسي الاستراتيجي، ودون الحاجة للدخول في تفاصيل أو تعاريف أكاديمية، ولتبسيط المعنى، فإن ما تقوم به مصر، حالياً، في منطقة القرن الأفريقي ومنطقة حوض نهر النيل، هو تعريف الاحتواء السياسي الإقليمي، بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية … إلخ.
ونظراً لما يمثله القرن الأفريقي وحوض نهر النيل من عمق طبيعي، واستراتيجي، لمصر، فلا عجب من تحركات وخطوات مصر، البارعة، في ذلك الإقليم، والتي كان منها زيارة السيد الرئيس عبد الفتاح إلى جيبوتي، كأول زيارة لرئيس مصري لهذه الدولة، التي تتمتع بموقع جيوبوليتيكي متميز، في مدخل القرن الأفريقي؛ فهي تطل على بحر العرب من ناحية، ومضيق باب المندب، أي مدخل قناة السويس، من ناحية أخرى. وأبلغ دليل على أهميتها الاستراتيجية، أنها الدولة الوحيدة، في الشرق الأوسط، التي يقع على أراضيها أربعة قواعد بحرية، أجنبية، للولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والصين، واليابان، فضلاً عن كون جيبوتي، لعقود طويلة، منفذاً رئيسياً، لدولة إثيوبيا، على البحر الأحمر، أثناء صراع إثيوبيا مع إريتريا، لعقدين كاملين. ولم تكتف مصر بالزيارة الهامة للسيد الرئيس لجيبوتي، بل سبقتها بإرسال معونات إنسانية لشعبها الشقيق.
وعلى ذات النهج، ظهرت خطوات مصر في اتجاه تنزانيا، بقيام تحالف شركتي المقاولون العرب والسويدي للكابلات، ببناء واحد من أضخم السدود في أفريقيا، وهو سد “جوليوسي نيريري”، بعدما فازت مصر ببنائه، في عطاء، أمام تركيا والصين ودول أخرى، ولتصور ضخامة حجم المشروع، دعوني أقول لكم أن شركة المقاولون العرب قامت ببناء 4000 منزلاً للعاملين به. وعلى الصعيد السياسي، فإن الاتصالات المتبادلة بين السيد الرئيس والسيدة سامية حسن رئيسة دولة تنزانيا، وآخرهم التي جرت منذ أسابيع قليلة، تم خلالها استعراض الموقف المصري والسوداني من مشكلة نهر النيل، تؤكد على عمق العلاقات الثنائية بين البلدين.
وترسيخاً لمبادئ مصر في مد يد العون لأشقائها، للارتقاء بهم، جاء تعاونها مع إريتريا، على مدار السنوات الماضية، بعد زيارة الرئيس أفورقي للقاهرة، وتوقيع العديد من البروتوكولات الاقتصادية والتعليمية والطبية، فضلاً عما تبذله مصر من جهد كبير في تشجيع الاستثمار المصري للتوجه نحو إريتريا. كما بدأ التحرك المصري تجاه جنوب السودان بزيارة السيد الرئيس السيسي إليها في أواخر العام الماضي، والتي أعقبها السيد وزير الري المصري بزيارة أخرى، في الأسبوع الماضي، للتعاون في مجالات تنموية عديدة، كان منها التوقيع على بروتوكول لإنشاء سد جديد على نهر سيوي، أحد أفرع نهر الجور، بحوض نهر الغزال، على مساحة ٩ كم جنوب مدينة واو، لتوليد 10 ميجاوات من الكهرباء. بالإضافة إلى زيارة أخرى، في الأسبوع الماضي، قامت بها السيدة الدكتورة وزيرة الصحة، أعلنت خلالها عن عدد من المشروعات الصحية التي ستنفذها بمصر بدولة جنوب السودان، كهدية لشعبها الشقيق.
ومن الناحية العسكرية، فقد ثبتت حكمة مصر، مرة أخرى، من زيارة السيد الفريق محمد فريد رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، إلى كل من كينيا ورواندا، وهما دولتان من دول حوض النيل، وتوقيع بروتوكولات تعاون عسكري بين مصر وبين كل منهما، وما تخللته الزيارة من التباحث بشأن الأمن المائي المصري، وتعنت إثيوبيا ضد مصر والسودان. فضلاً عن زيارته، في الأسبوع الماضي، إلى دولة الكونغو الديمقراطية، والتي بحث خلالها، مع رئيس الأركان الكونغولي، سبل تطوير التعاون العسكري ونقل الخبرات بين البلدين.
جدير بالذكر، أن السيد الفريق محمد فريد، قد توقف في السودان، في ختام زيارته للكونغو الديمقراطية، للتأكيد على إدراك الجانبين لما يربطهما من علاقات تاريخية، وما يمثلاه من عملية طويلة وهامة لأمنهما القومي المتبادل، وهو ما كان الدافع، الأزلي، وراء وقوف مصر بجانب أشقائها السودانيون، في كافة معاركهم السياسية والاقتصادية والعسكرية، خاصة بعد قيام ثورتهم في 2019. وقد تبلورت تلك العلاقات في زيارة سابقة للسيد الفريق محمد فريد رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، على رأس وفد عسكري مصري رفيع المستوى، حيث تم توقيع اتفاقية تعاون في المجالات العسكرية المختلفة، كان من بين أوجهها، ما شهدناه من تدريبات عسكرية مشتركة مع السودان، سواء التدريبات الجوية المشتركة “نسور النيل (1) و(2)”، أو التدريب المشترك “حماة النيل”، بمشاركة كافة القوات العسكرية الجوية والبحرية والدفاع الجوي والبرية من الجانبين.
من تلك الجهود التي تبذلها مصر، وقيادتها السياسية، يتضح مفهوم الاحتواء الإقليمي، في القرن الأفريقي، ودول حوض النيل، لعرض حقيقة قضية مياه النيل، في ظل التعنت الإثيوبي، وأهمية الوصول إلى اتفاق عادل بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا، بما يضمن تحقق الأمن المائي لدولتي المصب، وتحقق مصالح إثيوبيا وشعبها في مشروعات التنمية المختلفة، في ظل تأكيد مصر على التزامها بالقوانين الدولية في إطار قانون الأمم المتحدة في عام 1994 لإعداد اتفاقية إطارية بشأن قانون استخدام المجاري المائية والأنهار الدولية الخاص بتنظيم تدفق مياه الأنهار ومسؤوليات دول المنبع والمصب وأحقية كل منهم في مياه النهر الجاري.