يهل علينا الخامس من يونيو، من كل عام، حاملاً ذكرى أليمة، في تاريخ مصر الحديث، من عام 1967، أي منذ ما يزيد عن 50 عاماً، وهي هزيمة يونيو التي لم يعاصرها غالبية الشعب المصري، الحالي. ورغم قسوة ومرارة الذكرى، إلا أنني عاهدت نفسي، طالما بقيت على قيد الحياة، أن أتذكرها، وأذكر بها الأجيال الجديدة، من شباب مصر، لنستلهم منها الدروس والعبر، عن قدرة شعب مصر العظيم، على الصمود والتحدي، وتحويل الهزيمة إلى أعظم انتصار للشعب والجيش في العصر الحديث.
تبدأ الأحداث قبل الخامس من يونيو 1967، عندما صدرت الأوامر بتحرك قوات الجيش المصري، إلى سيناء، استعداداً لنجدة الأشقاء السوريون، في حال قيام إسرائيل بأي عمل عسكري تجاه سوريا، وذلك في أعقاب ورود أخبار عن الحشد الإسرائيلي، على الحدود مع سوريا. كنت أنا، في ذلك الوقت، ضابطاً بالقوات المسلحة المصرية، برتبة ملازم أول، وضمن طلائع القوات المصرية، التي تحركت من معسكراتنا، في القاهرة، في اتجاه سيناء، حتى وصلنا إلى منطقة الكونتلا، على حدود مصر الشرقية، ورأيت، بالعين المجردة، برج المراقبة الإسرائيلي، مرفوع عليه علم نجمة داود.
وبحلول يوم الثالث من يونيو 1967، وصل إلينا جنود الاحتياط، لاستكمال إعداد الكتيبة للاشتباك، إذا ما دعت الحاجة، إلا أنه، مع الأسف، وصل هؤلاء الجنود، بملابسهم المدنية، بما فيها الجلباب، غير حاملين للسلاح، ولا مؤهلين بالتدريبات اللازمة، بما شكل عبئاً علينا، خلال هذه الفترة، بدلاً من أن يكونوا دعماً لنا. وهو ما كان أحد الدروس والخبرات التي استفاد منها الجيش المصري، بعد هزيمة 1967، بوضع خطة تعبئة مثالية، تدرس، اليوم، في جيوش العالم.
وفي نهار يوم الخامس من يونيو من عام 1967، شنت القوات الجوية الإسرائيلية، ضربة، مفاجئة، على المطارات والقواعد الجوية العسكرية ووسائل الدفاع الجوي، وتمكنت من تدمير معظم الطائرات المقاتلة المصرية، على الأرض، ودمرت معها البنية الأساسية للمطارات والقواعد العسكرية، وأبطلت عمل وسائل الدفاع الجوي المصري. والحقيقة، وبالمقاييس العسكرية، فإن إسرائيل نجحت في تلك الضربة الجوية، وحولت سماء مصر، بالكامل، إلى مسرح عمليات مفتوح أمام قواتها الجوية، لتفعل ما تشاء.
وبالفعل، بدأت القوات الجوية الإسرائيلية في الهجوم على قواتنا البرية، في سيناء، وهنا صدرت لنا الأوامر بالانسحاب غرباً، من منطقة الكونتلا الحدودية، إلى منطقة نخل. ومرة أخرى، ومع الأسف، لم تكن هناك خطة واضحة للانسحاب، فتم تنفيذ الانسحاب بطريقة عشوائية، لا تمت بصلة لقواعد ومفاهيم العلوم العسكرية. وبعد الوصول إلى منطقة نخل، صدرت الأوامر باستكمال الانسحاب إلى مضيق متلا. خلال هذه المرحلة تكبدت قواتنا خسائر فادحة، إذ نفذ العدو الإسرائيلي مفاهيم وقواعد القتال، وفقاً لنظريات العلوم العسكرية، أو بكلمات أخرى، “كما قال الكتاب”. يبلغ طول ممر متلا 32 كيلو متر، تحف أجنابه جبال شاهقة، لا تسمح بأي التفاف حولها، وهو ما استغلته قوات العدو لصالحها، فدمرت قواتنا على مدخل ومخرج الممر، وحاصرت باقي القوات والأسلحة والمعدات بداخله، وبدأت عملية تدميرها، وهو ما تكرر، للأسف، على محور ممر الجدي في الطريق الأوسط.
أما من نجا منا، فبدأ في رحلة العودة، سيراً على الأقدام، باتجاه قناة السويس، تحت قذف المروحيات الإسرائيلية لجموع القوات المصرية المنسحبة، ولعل مشاهد فيلم “الممر” قد وضحت، ببلاغة، أدمعت العين، صورة من تلك الأحداث المريرة. وفي النهاية، وصلنا، بمعجزة، إلى الضفة الشرقية للقناة، يوم التاسع من يونيو عام 1967، وقد رفع العدو الإسرائيلي أعلامه على الضفة الشرقية لقناة السويس، بينما الجيش المصري يجري تدميره في سيناء، والرئيس جمال عبد الناصر يعلن تنحيه عن الحكم، في الخامسة من مساء ذلك اليوم الأسوأ في تاريخ مصر الحديث.
وحينها تجلت قوة وشموخ الشعب المصري العظيم، الذي رفض الهزيمة، ورفض تنحي عبد الناصر، وأصر على مساندة قيادته حتى النصر، وبعد شهر واحد، قامت فصيلة قوامها 30 جندي، من الصاعقة المصرية، بأسلحتهم، بإيقاف تقدم القوات المدرعة الإسرائيلية، لاحتلال مدينة بور فؤاد، في منطقة رأس العش. وبعد معركة استمرت سبع ساعات، نجحت هذه القوة المصرية، المحدودة العدد، في إيقاف المدرعات الإسرائيلية وكبدتها خسائر فادحة. وفي شهر أكتوبر، من نفس العام، تم إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات، أمام شواطئ بورسعيد، من قِبل لنشات الصواريخ التابعة للبحرية المصرية.
وكانت تلك بداية النصر، فخلال ست سنوات، هي عمر حرب الاستنزاف، تم إعادة تسليح القوات المسلحة المصرية، وتدريبها على الأسلحة الجديدة، بينما الشعب المصري، يضرب مثلاً عظيماً، في التضحية والصمود، إدراكاً منه للهدف الأعظم، والصالح العام، فتعاون في تهجير 3 مدن، هي بورسعيد والإسماعيلية والسويس، باعتبارها مدن الجبهة اللازمة للعمليات العسكرية، ضمن التخطيط، الجاري حينها، لحرب أكتوبر 1973.
وفي السادس من أكتوبر 1973، قامت القوات المسلحة المصرية، بأعظم عملية عسكرية، في التاريخ الحديث، باقتحام أكبر مانع مائي، وتدمير أقوى خط دفاعي في التاريخ العسكري، وهو خط بارليف. ونجح الشعب المصري، وجيشه العظيم، في تحويل هزيمة 1967، إلى نصر مبين، وهو الدرس المستفاد للأجيال، الحالية، من شباب مصر، للإيمان بقدراتهم على تحقيق المستحيل.
واليوم، ونحن نخوض معركة التنمية والنمو، في ظل تحديات محلية، وعالمية، لا تتشككوا أبداً، بأننا قادرون، بإذن الله، على الوصول للهدف، مثلما حققنا النصر في أكتوبر 1973.1