(البِشعة أو لحس النار برؤية العين)
البشعة بكسر الباء هي محكمة عرفية أو إجراء يقوم به بعض البدو المتخصصين عن طريق لحس المتهم للنار للكشف عن مرتكبي بعض الجرائم التي لا يلجأ ضحاياها إلي الإبلاغ عنها ويفضلون اللجوء للحلول العرفية ومنها الرضا بالاحتكام لتلك الطريقة لإثبات الإدانة أو البراءة لمن يوجه له الإتهام..
وقد دفعني الفضول وحب الاستطلاع ومحاولة معرفة الحقيقة من كثرة الجدال حول تلك الطريقة إلي السعي لحضور أحد تلك الجلسات لأشاهد بنفسي هذا العالم الغريب وقد تحقق لي ذلك بعد أن تم دعوتي لحضور أحد تلك الحالات والمتهم فيها أحد الشباب بالشبهات ودون شاهد أو دليل بسرقة حلق ذهبي من أذن طفلة صغيرة غير قادرة علي تمييز شخص السارق الذي حامت حوله الشبهات وقد قررت الجلسة العرفية اللجوء لنظام البشعة نزولاً علي رغبة الطرفين وتحدد لها يوم معين التزم كل طرف بإحضار عدد معين من عائلته وقد تسابق كل طرف في إحضار كبار وأعيان عائلته باعتبارها جريمة شرف وكرامة وتم تحديد مبلغ مالي كبير يدفعه من يثبت في حقه الاتهام أو يدفعه الطرف الآخر حال ثبوت براءة المتهم كنوع من رد الإعتبار..
وفي الموعد المحدد والذي تم الإتفاق عليه وتقرر أن يذهب الجميع في سيارة واحدة في البداية إعتقدت أن ذلك من باب توفير النفقات أو الحرص علي عدم تعدد السيارات حتي لا تتعطل إحداها وتتعطل الرحلة ولكني علمت أن الغرض أن يمنع الجميع من التواصل مع أصحاب البشعة وحرصاً علي الشفافية والحيادية في كل مراحل العملية..
وبالفعل وفي أول ضوء للنهار لليوم المحدد حضرت سيارة ميني باص مكيف أستقلها الجميع وتوجهنا برفقة المنظم للزيارة إلي أحد مناطق محافظة الشرقية ووصلنا بعد ساعتين إلي شاطئ ترعة كبيرة عبرناها بمعدية إلي الجانب الآخر في داخل عمق الجبل من الشاطئ الآخر كل ذلك وأنا أشعر أنني أعيش تجربة من عالم خيالي وصلنا بعد فترة إلي المكان المقصود واستقبلنا شيخ المكان بترحاب كبير وكرم ضيافة معهود فيهم وبعد جلوسنا طلب الرجل أن ينفرد بكبير كل طرف ودعاني أيضاً فهمت منه بعد ذلك أن ذلك مجرد محاولة منه لإعتراف الشاب بالتهمة إن كان قد فعلها دون إستكمال الإجراءات ولكن أنتهي الأمر إلي التمسك بإجراء البشعة..وقد بدأت مراسم الجلسة داخل خيمة الشيخ وجلس الجميع فيها فيما يشبه مربع ناقص ضلع داخل الخيمة البدوية وعلي مقاعد بدويه اثيرة وقد أحضر بعض شباب البدو كتل ضخمة من الأخشاب ووضعوا فيها تلك الأداة المسماة بالبشعة وهي عبارة عن طاسة سوداء مما يشبه الحديد الزهر مرتبطة بذراع طويل وضعوها داخل تلك الكتل الخشبية وأشعلوا النار في هذا الخشب ثم جلس الجميع يتحدثون في حوارات جانبيه تناولنا فيها الشاي المعد علي الخشب أكثر من مرة وبعد ما يقرب من الساعة توجه الشيخ لإلتقاط الطاسة أو البشعة وإخراجها من داخل النار وإذا بها عبارة عن كتلة حمراء كأنها الجمر وقام بسحبها علي الرمل أمامنا. وامام الشاب المتهم بالطبع فإذا بحبات الرمال تنطلق من تحتها بارتفاعات رهيبة بفعل الحرارة الشديدة وعيون المتهم لا تفارق هذا المنظر والذي ربما قصده الشيخ لإرهاب المتهم ودفعه للإعتراف قبل أن يطلب منه لحس تلك الطاسة..
وللحقيقة فإن هذا المنظر لو تعرضت له أو سألني الشيخ حينها هل أنا من سرقت الحلق لأعترفت له بذلك علي الفور وأعترفت له أيضا بقتل البنت علي الرغم من أنها ما زالت علي قيد الحياة لكني لن أقترب من لحس تلك الطاسة بالتأكيد…
وهنا بدأينتاب الجميع نوع من القلق هل يقدم الشاب علي لحس تلك الطاسة الغريبة والمرعبة أم سيتراجع أمام منظرها الصعب لحظات مرت علي الجميع ومن الطرفين وإتصالات تليفونية لا تنقطع ترد للجميع الكل يستفسر من ذويهم عن آخر الأخبار وتشعر كأن الجميع يسعي للحصول علي نتيجة الثانوية العامة من الكنترول دقائق مرت كالدهر حتي قام الشيخ بإخراج الطاسة من النار وحملها من الذراع المرتبط بها ناحيته والكلية في الطرف الآخر وتوجه بها ناحية الشاب والجميع أصبحوا كمن علي رؤوسهم الطير حتي أنك تكاد تسمع ضربات قلب كل من حولك وجلس الشاب علي ركبتيه أمام الشيخ أما أنا فلم أحاول الوقوف لشعوري أن قدمي لن تحملني أمام هذا المشهد الصعب الذي أصبحت معه في حيرة من أمري هل أخفي عيني حتي لا أشاهد عملية اللحس للطاسة الملتهبة والتي ربما لا تتكرر تلك الفرصة مرة أخري وأخيراً أستجمعت شجاعتي التي لم تعد موجودة أصلاً وقررت المشاهدة وقد اقترب الشيخ بالطاسة إلي وجه الشاب وطلب منه إخراج لسانه لينال أول لحسة!!! يا اللهي هل يفعلها الشاب وهل يجرؤ علي ذلك أم يتراجع وليكن ما يكون ولكن الشاب أخرج لسانه مترددا في البداية وخائفا بالطبع ليقوم بعد ذلك بلحس الطاسة بلسانه ووجه مرعوب وعيناه تفتح وتغمض ألف مرة في الثانية الواحدة وقام بأول لحسة يا للهول لقد فعلها!!! وفجأة تحولت حالة الرعب داخله إلي النقيض تماماً وبدأ الشاب في لحس الطاسة وكأنه يلحس في الآيس كريم وسط ذهول الجميع أما أنا فلم أعد افهم ما أشاهده أو الحالة التي فيها هل هي رعب أو ذهول أو دهشة حتي أن الشيخ حين طلب من الشاب لحسة إضافية بدلاً من اللحسة الأولي التي كان متخوفاً فيها وجدناه يخرج لسانه حتي نهاية ذقنه ليستمتع بلحس الآيس كريم أو عفواً الطاسة الملتهبة
وبعد أن إنتهى الشيخ من عملية لحس الطاسة طلب من أحد مساعديه إحضار كوب ماء فأحضر المساعد إناء ماء كبير حوالي لتر ونصف أو لترين تقريباً صبه الشيخ داخل الطاسة فسمعنا بعدها صوتا شديداً ورأينا كرة كبيرة من البخار تنطلق منها لقد جف كل هذا الماء وتبخر من شدة حرارتها وجاء المساعد بكوب آخر فحدث نفس الشئ وفي المرة الثالثة نفس الأمر وأن كان إندفاع البخار بشكل أقل وفي المرة الرابعة تبقي حوالي كوب صغير في الطاسة أخيراً تم تبريدها..
ما هذا ما الذي يحدث أمامي وأراه بعيني ولا أسمعه من أحد في البداية توقعت أن معدن الطاسة من النوع الذي يكتسب الحرارة بسرعة ويفقدها بنفس السرعة أو أن لسان البرئ من ثقته في البراءة يكون مبللاً بما يسمح له بتبريد تلك الطاسة دون أن تؤذيه بعكس المتهم الذي يكون ريقه ناشف من التوتر وعندها تؤثر فيه تلك الحرارة ولكن أي ريق وأي لسان مبلل يعادل اربع أكواب من الماء صبت بداخلها بعد إنتهاء العملية وتبخرت نتيجة حراره تلك الطاسة؟؟؟
يا اللهي هل أنا أحلم هل أنا أعيش في عالم غريب ما زلت علي يقين أن ما يحدث هو أمر غريب لا أميل إلي تصديقه أو الاقتناع به..
ثم طلب الشيخ من المساعد أن يعطي الشاب جرعة ماء يتمضمض بها فقط دون أن يبلعها ثم طلب منه أن يفتح فمه ليشاهد لسانه والجميع ينتظر لحظة النطق بالحكم ثم تأتي اللحظة التي ينتظرها الجميع والتي تحملنا من خلالها كل تلك المشقة والعيون كلها تتحول بين الشاب والشيخ الذي قام بعد ذلك بإعلان براءة الشاب من تهمة السرقة لتتحول الخيمة إلي ضجيج واحضان وعناق وبكاء لينال الشاب تهنئة الجميع حتي من أهل الطفلة ذاتهم وينخرط الشاب في نوبة بكاء هيستيرية لم يحاول أحد منا أن يمنعه فقد تحمل ما لا يطيقه بشر..
أما أنا فما زلت في حالة حيرة مما رأيت فطلبت التحدث مع الشيخ علي إنفراد وحاولت أن أفهم منه حقيقة ما حدث فقال لي كلاماً لم إستوعب أو أستسيغه من أن تلك النار عليها عزيمة أو عهد وأنها لا تؤذي برئ وأن ذلك عادة عربية قديمة لا يقوم بها أي شخص حيث أنه عهد يأخذه البعض من آبائهم وليس لكل من يريد وأن هذا النظام يستغله الآن بعض النصابين ولكن لابد من الرجوع لاهل الاختصاص والعزيمة في هذا الأمر استمعت منه ولم أقتنع..
ثم ينطلق الجميع في طريق العودة للقاهرة وأثناء الرحلة يتم دعوة الجميع إلي الغذاء في أحد أفخم المطاعم من جانب أهل الشاب الذين عادوا ورؤسهم تعانق السحاب ولعل تلك الدعوة للغذاء هي الحقيقة الملموسة والمكسب الوحيد في تلك الرحلة الغريبة ثم إستكملنا الرحلة التي لم تنزل خلالها عيني من علي الشاب المتهم البرئ وأندهش كيف فعلها وكل فترة أطلب منه أن أشاهد لسانه حتي وصلت لمنزلي وبعد أن نزلت من السيارة استدرت ناحية الشاب للمرة الأخيرة وانا ما زلت غير مصدق لما حدث متيقناً أن في الأمر شئ غير طبيعي لم أستطع التوصل إليه كما لم أستطع أن أكذب ما رأته عيني لكنها بلا شك بدعة غريبة وتخالف الشرع الذي أمرنا أن البينة علي من أدعي واليمين علي من أنكر لكنها ما زالت تحتاج إلي تفسير منطقي لم أستطع التوصل إليه..المهم أنني ذهبت متوقعاً فهمي لتلك الطريقة الغريبة فعدت أكثر حيرة مما ذهبت ولكني ما زلت عند رأي أن أهل البنت لو اتهموني بسرقة الحلق ساعترف لهم أيضا بقتلها رغم وجودها علي قيد الحياة ولكن لن أقترب أصلا من تلك الطاسة وليس لحسها..
الصورة إسترشادية وتوضيحية فقط