كتبت هدي العيسوي
قال حسن إسميك رئيس مجلس أمناء مركز ستراتجيك للدراسات والأبحاث، إن مصر وبخاصة شوارع القاهرة والإسكندرية والجيزة أشبه بأرضية متحفٍ شاسع وممتد، يضم بين طياته إبداع عصور من الحضارة، ويلمّ ذاكرة شعوب عاشت على هذه الأرض، تلك الذاكرة التي يفوح منها عبق تاريخٍ أقدم من التاريخ ذاته.
وأشار إسميك، إلى أنه حينما يتجول بناظره يجد مسجداً فاطمياً تتوه بين مفرداته الزخرفية الأخاذة، ولربما ألمح بين جدرانه كتلاً حجرية فرعونية عليها كتابات هيروغليفية، ثم ما يلبث أن يشده أحد الأعمدة الرومانية العتيقة البهية. كيف لا ومصر جوهرة الشرق البهية وأم الدنيا!.
ولفت الكاتب العربي، إلى أنه عندما يسير في مصر يشعر أن كل خطوة يمشيها تطلق له جذوراً في الأرض، وأن كل زاوية وكل قنطرة وكل قطعة حجر تحكي حكايا الإنسان، وذكريات البشرية بكل إرثها.
وذكر إسميك، أنه يمكن لكل بناء أثري وكل زخرفة إسلامية أو كتابة هيروغليفية أن تطلق العنان للتساؤلات والتخيلات عما حدث هنا، وعن تفاصيل الأيدي المبدعة التي شيدت هذه الفنون المعمارية. عن كل فرعوني وروماني وأموي وطولوني وفاطمي وأيوبي ومملوكي… أراد أن يترك أثراً يسجل مروره على هذه الأرض العظيمة.
ويصل الخدر ذروته عندما تدخل المدن القديمة! لتدور في أحيائها الضيقة وترسم بمخيلتك حكاية كل تاجرٍ وعابر سبيل وسائح مر على أحجار طرقها المرصوفة.
تابع: وتكاد تسمع صدى كل ضحكة ونداء وحتى كل صرخة ألم ترددت بين حنايا هذه الأزقة. لكن لا يلبث صفو رحلتك الممتدة في عوالم الخيال والتاريخ أن يتعكر بمشكلات الواقع الذي تعيشه هذه الأماكن، من الازدحام الخانق وعجلات السيارات التي تطحن حجار هذا الإرث الحضاري، إلى البيوت التي لم يبق من بعضها سوى الهيكل، وصولاً إلى التغيير الكبير في معالم هذا الإرث والذي ساهم فيه أصحاب البيوت أنفسهم، فبدلوا أبواباً وشبابيك وأضافوا على البناء أو تلاعبوا به، فأفقدوه، من حيث يدرون أو لا يدرون، كثيراً من قيمته الحضارية والثقافية والإنسانية.
وأكد حسن إسميك، أن مصر تستحق أن تكون وجهةً للاستقرار، فإلى جانب موقعها الجغرافي المميز، تتميز القاهرة بطابع نادر من الأصالة والعراقة والغرابة الخلابة، كفيلٌ –إذا ما جرى صقله وإظهاره بالقليل من العناية والتأكيد على الطابع الحضاري والتراثي والثقافي– بإعادة القاهرة وجهة للقاصي والداني، ولكن كيف يمكن أن يتحقق للقاهرة ذلك وهي مكتظة بالسكان، وطرقها غير متناسقة، تعج بزحمة السير، إضافة إلى السيارات المصطفة على اليمين واليسار ما جعل المدينة أقل نظافة وارتفعت فيها نسبة التلوث.
وأتساءل هنا: كيف يمكن لبلدية القاهرة أن تسمح بتشييد أبنية جديدة عملاقة إلى جانب الأبنية القديمة العريقة الخلابة؟ وكيف تشيح بنظرها عن قيمة كل حجر وخصوصيته وفرادته وما يحمله من تاريخٍ، يكاد يجعل من كل منزل ومعبد وزقاق متحفاً حياً يصور تفاصيل الحياة التي عاشها من سبقونا على هذه الأرض.
ونوه بأن هذا الإرث المعماري هو إرث المصريين، لكنه إرث العرب أيضا وحتى الإنسانية كلها، لقد ائتمننا عليه أسلافنا، وسلمتنا إياه الأيدي المجيدة التي ضحَّت لتشيّيد كل بناء ورفع كل حجر. إنَّ الجهد الماهر والحرفي الذي بُذل لبناء هذه البيوت واضح وصريح يشهد عليه بقاء هذه الأبنية وقدرتها على احتواء أناس ما زالوا يقطنوها حتى هذا اليوم. لكن هذا النوع من الاستهلاك القاسي يقلل من عمرها شيئاً فشيئاً، ويوهن قدرتها على الصمود أكثر. فالتحوير الذي يحصل على ملامح الأبنية دليل على عدم تماشيها مع تلبية حاجيات الحياة المعاصرة، لذلك يضطر سكانها إلى إضافة ملحق هنا، وتغيير باب هناك وإضافة سقف أو جدار لحمايته من السقوط. ربما يتطلع بعض المصريين إلى مشاهدة أبنية عصرية في القاهرة على غرار الأبنية الموجودة في دبي وسنغافورة وميامي، ولكن ينسى هؤلاء القيم الجمالية التي تتمتع بها العواصم التاريخية مثل لندن وباريس والقاهرة ودمشق.
أضاف أن أي تفكير في تشييد أبنية جديدة عصرية في المستقبل، يمكن أن يتحقق شريطة أن يكون خارج القاهرة أو الإسكندرية من أجل المحافظة على روعة وجمال هذه المدن الفريدة التي تحكي تاريخاً عريقاً قل نظيره في العالم.
وأشار إلى أن الحلول موجودة وكثيرة، ففي حالة القاهرة القديمة مثلاً، يمكن لبلدية المدينة أن توفر مواقف خاصة بالسيارات خارج أسوار الأحياء العتيقة الأثرية فتحل مشكلة وقوف السيارات في شوارعها القديمة الجميلة المليئة بالتحف الأثرية ويتم وفقاً لهذا النهج المحافظة على التراث، أو أن تشتري الدولة جزءاً لا تقل نسبته عن 30% من هذه الأبنية وتنقل سكانها إلى ضواحي سكنية جديدة، تتناسب مع متطلبات الحياة المعاصرة، فيشعرون بالراحة والاستقرار من جهة، ويُضمن الحفاظ من جهة أخرى على جمال ورونق الأبنية الأثرية، وصونها من التلوث والازدحام، مع التركيز طبعاً على زيادة المساحات الخضراء في القاهرة، وإزالة العديد من الأبنية التي تسبب الضرر للمناطق الأثرية.