بالخير والبركة أهلَّ علينا هلال رمضان لينفض عن النفس غبار أحد عشر شهرا من الانشغال بالدنيا وصراعاتها.. فجاء ليكون محطة تستقر فيها الروح وتهدأ النفس وتعيد حساباتها مع الله سبحانه وتعالى.. يقول الكثيرون إن شهر رمضان شهر الطاعات والخيرات والبر والكرم وغير ذلك من الصفات الحميدة.. نعم هذا صحيح ولكنى أحب أن أسميه “شهر العودة”، فهو يعتبر فرصة للعودة وتجديد العهد مع الله ومع النفس.. فقد جاء رمضان ليعود من هجر الصلاة أو قصر فيها إلى المسجد من جديد يصلى الصلوات فى أوقاتها ويختم يومه بصلاة التراويح والتهجد ليعيد الصلة التي قطعها فى علاقته بربه.. ويعود من هجر المصحف حتى علا الغبار أوراقه من طول “ركنه” على الرفوف فيزيل الغبار عنه ويقرأ بتدبر وإمعان فى كلام الله الذى نزل فى هذا الشهر الكريم كما قال تعالى (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآ هدى للناس وينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه).. جاء رمضان ليعود من قطع رحمه إلى وصلها من جديد لأن صلة الرحم من أعظم القربات التى حث عليها القرآن الكريم والسنة النبوية فقال الله تعالى محذرا من قطع الأرحام (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا فى الأرض وتقطعوا أرحامكم) وقال النبي الكريم: “من سره أن يبسط له فى رزقه أو ينسأ له فى أثره فليصل رحمه).. جاء رمضان ليعود عاق والديه إلى رشده وصوابه فيطلب منهما الصفح والغفران ويمرغ وجهه تحت أقدامهما لينال رضاهما لأنهما أحد أبواب دخوله الجنة ولو أغلق هذا الباب بوفاتهما دون أن ينال رضاهما فلن يفتح أبدا، يقول الرسول الكريم فيما معناه: رغم أنفه من أدرك والديه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة. جاء رمضان ليعود مانعو الزكاة والمتعاملون بالربا وآكلو أموال الناس بالباطل إلى عقلهم ويؤدوا الأمانات إلى أهلها ويطهروا أموالهم من الربا ويستغفروا الله على ما مضى ويعاهدوه فيما هو آت على السير في طريق الخير والبعد عن الحرام فى المأكل والمشرب وكل أمور الحياة. جاء رمضان ليعود الفاسدون والمرتشون وناهبو المال العام إلى جادة الصواب ويخلصوا فى عملهم ويداوموا على ذلك بعد رمضان طلبا لرضا الله.. مطلوب من المسلم ألا يكون صيام هذا الشهر مجرد امتناع عن الطعام والشراب مع مقارفة كل الموبقات والأفعال التى لا ترضى الله وارتكاب الجرائم الأخلاقية والتعاملات الفاسدة فى حق الوطن والمواطنين لأن الهدف من الصيام أسمى من مجرد الجوع والعطش وهو التقوى أى الخوف من الله ومراقبته فى السر والعلن (لعلكم تتقون) أما الامتناع عن الطعام والشراب فهو لا يحقق هذه الغاية العظمى ولا يساوى في ميزان العبد شيئا إلا إذا ارتبط بأثره على النفس والسلوك كما قال الرسول صلى لله عليه وسلم: “كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش” وقال أيضا: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه شرابه”.. فلنحرص على العودة إلى الله في هذا الشهر الكريم الذي يمثل فرصة ذهبية للتوبة والعمل الصالح وفترة تدريبية تعطى المسلم دفعة إيمانية تعينه على الطاعة بقية العام.