منذ عدة سنوات كتبت، في هذا المكان، مقال بعنوان “عندما يحول المحافظ إلى مكتب النائب العام”، تناولت، خلاله، موقفاً حدت معي، شخصياً، وأنا محافظ للأقصر، عندما قررت توحيد لون طلاء جميع مباني الأقصر، بما يتناسب مع طراز المدينة الأثري، بينما المنازل الريفية الواقعة على الطرق المؤدية للأقصر، مثل الطريق من الغردقة، الذي يعج بالسياح القادمين للمدينة، ضمن برامج زيارة اليوم الواحد، فتلك المنازل قررت طلاءها بألوان زاهية، محاكاة لمنازل أهل النوبة الجميلة. واستأذنت السيد رئيس مجلس الوزراء، حينها، الدكتور أحمد نظيف، في إسناد تلك المهمة لأساتذة وطلبة كلية الفنون الجميلة بالأقصر، بدلاً من المقاولين، لما في ذلك من رفع روح الانتماء.
وفي أول يوم لتنفيذ المهمة اصطحبت الدكتور عبد العاطي، عميد الكلية، ومعه الأساتذة والمعيدين والطلبة، لطلاء منازل أول نجع على ضفاف ترعة أصفوان التي تمتد جنوباً إلى أسوان، وتروي مئات الأراضي الزراعية على الجانبين. وخلال الجولة تقدم نحوي أحد شباب النجع قائلاً “يا سيادة المحافظ عندنا مشكلة في الغسيل الكلوي، فعشرة من أهالي النجع يحتاجون للغسيل الكلوي، ويضطرون للذهاب يومياً إلى المستشفى البعيد، بعدما أغلقت تلك القريبة لتطويرها”. والحقيقة أنني ذهلت، ليس، فقط، للعناء الذي يتكبده أولئك المرضى الضعاف للوصول للمستشفى البعيد، ولكن كانت صدمتي الأكبر في عدد المرضى، الذي يمثل نسبة كبيرة من تعداد أهالي النجع الصغير الذي لا يتخطى 250 فرد!
وصحبني الشاب إلى منزله، لأري مياه الشرب الواصلة لمنازلهم، فإذا بلونها بني … آه والله بني، والسبب أن النجع يعتمد على طلمبات حبشية لرفع المياه من باطن الأرض، دون تنقيتها، بالطبع، رغم أن النجع يقع على مسافة خمسين متر من طريق المطار، الذي تمتد تحته شبكة المياه النقية. وعلى الفور اتصلت بالسكرتير العام المساعد، وأصدرت أوامري بأن يتم، اليوم، البدء في توصيل خط مياه المطار إلى النجع، على أن أصلي الجمعة، التالية، مع أهاليه، وقد دخلت المياه النقية إلى كل منزل، وهو ما قد كان. وفي الأسبوع التالي تلقيت مكالمة من المحامي العام لنيابات الأقصر، يبلغني، ونبرات الخجل تعلو صوته، بأن وزير الري قدم بلاغاً ضدي للنائب العام، لأنني أدخلت المياه لمنازل مخالفة، تمت إقامتها على أراضي الري المجاورة لترعة أصفون، فرددت، ببساطة، أن هذا النجع عمره خمسون عاماً، ولم تتم إزالة مساكنه المخالفة.
عموماً، لن أطيل في تفاصيل ذلك الموضوع، خاصة أنه حُفظ في حينه، ولكنني تذكرته وأنا أتابع تنفيذ قرار السيد الرئيس، بتطوير الريف المصري، ضمن مبادرة “حياة كريمة”، التي انحازت إلى الأسر الفقيرة، في ريف ونجوع مصر، التي تعيش في بيوت من طين، يعلوها سقف من جريد النخيل اليابس، فلا يحميها من برد وأمطار ورياح وتقلبات الطقس. وإن عرفت أن معظم تلك “البيوت” بدون أبواب ونوافذ، وبلا أثاث، فلابد وأنك أدركت أنها بلا مرافق، سواء مياه أو كهرباء أو صرف صحي، ناهيك عن عدم توفر الخدمات حولها، كالمدارس، ووحدات الرعاية الصحية. ولا يقتصر ذلك الوصف على القرى والنجوع، فحسب، بل يمتد إلى المدن، وهو ما رأيته، بعيني، بالأقصر، أثناء تنفيذ مشروع توسيع طريق الكباش، وإزالة التعديات عليه، والتي كان منها بيوت بالطوب الأحمر، ولكنها بلا أبواب ولا نوافذ، ولا مرافق … باختصار حياة بائسة، إن جاز وصفها بالحياة.
أما اليوم، فأشعر براحة كبيرة وأنا أتابع أعمال تطوير ريف مصر، وتأسيس أعمال البنية الأساسية، من مياه وكهرباء وصرف صحي، وإنشاءات المنازل الجديدة، وترميم وتحديث القائمة، فلا أحد يدافع عن التعدي على حقوق الغير أو حقوق الدولة، بالبناء العشوائي، وليس مجاله اليوم، تحليل أسباب تلك العشوائية، أو تردي الحياة المعيشية لقطاع من أبناء مصر. فأيً كانت الأسباب، يبقى هؤلاء أبناء الوطن، الذين انحاز لهم السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بضرورة توفير حياة كريمة لهم، لما لذلك من انعكاسات إيجابية على مستقبل ذلك الوطن. فبدلاً من الانجراف لدائرة مفرغة من توجيه اللوم، قرر السيد الرئيس أن تتكاتف الهمم لتوفير البيئة النظيفة، المناسبة، المدعومة بأساسيات المطالب الإنسانية، لخلق مجتمعات جديدة، تفرز أجيالاً سليمة من شباب مصر، المنتمي لبلاده، وهو ما يعتبر الفلسفة الحاكمة لهذه المبادرة الرئاسية، التي بلغت تكلفتها 20 مليار جنية، لعدد 75 على قرية، في المرحلة الأولى، يستفيد منها حوالي 4,5 مليون مواطن، ليليها باقي المراحل التي تستهدف تغطية كل قري الريف المصري خلال الأعوام الثلاثة القادمة.
حيث تشمل المرحلة الأولى 70% من القرى الأكثر احتياجاً، وفقاً للدراسات وبيانات الرصد، بينما تشمل المرحلة الثانية القرى التي تتراوح نسب الفقر بها بين 50 إلى70%، وأخيراً، المرحلة الثالثة، بالقرى التي تقل فيها نسب الفقر. ولا تقتصر تلك المبادرة الرئاسية على بناء الأسقف ورفع كفاءة المنزل بمد وصلات المياه والكهرباء والصرف الصحي، وإنما تمتد لتشمل برامج تدريب وتشغيل بمشروعات متناهية الصغر، لأبناء وبنات هذه القرى، وصولاً إلى استدامة التنمية. وأنا على يقين أن هذا المشروع سيتم تنفيذ كافة أبعاده، بدقة متناهية، خلال السنوات الثلاث القادمة، لعلمي بأن السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي يتابعه خطوة بخطوة، ولن أقول أسبوعياً، بل يومياً.
فتحية لتلك المبادرة الكريمة، وتحية لجميع القائمين على تنفيذها، لتوفير الحياة الطبيعية والإنسانية لفئات حرمت منها لسنوات طويلة، لتخلو مصرنا المحروسة، من البيوت من طين والأسقف من نخيل.