إعداد/حازم خزام بالهيئة العامة للإستعلامات برئاسة الجمهورية متابعة عادل شلبى السلوك السوي والسلوك الشاذ ومعايير تحديد السوي واللاسوى ! قد يختلف عما هو في ميدان الطب العام . ففي الطب (الجسدي ) يكفي الطبيب أن يخلّص مريضه من الاضطراب العضوي الذي دفعه للعلاج لكي يحكم بأنه قد شفي وانه سليم ومعافى. أما في حالة الأمراض النفسية فانه لا يكفي القول بان المريض تخلص من قلقه أو حالة الكآبة لديه للحكم على انه اصبح سليماً. فالصحة النفسية لا تتوقف عند عتبة التخلص من الأعراض المرضية بل هي تتطلب فضلاً عن ذلك أن يتسم سلوك المريض بخصائص معينة كأن يتصف بالإيجابية والفاعلية والرضا عن النفس وغير ذلك من الصفات الدالة على الصحة والاتزان ، أي أن شخصيته قد اكتسبت خصائص وصفات لم تكن موجودة من قبل أو أنها كانت متخفية خلف المرض النفسي ثم ظهرت من جديد وبفاعلية جديدة . والاتزان ، أي أن شخصيته قد اكتسبت خصائص وصفات لم تكن موجودة من قبل أو أنها كانت متخفية خلف المرض النفسي ثم ظهرت من جديد وبفاعلية جديدة . يقسم السلوك البشري الى قسمين: سلوك سوي و سلوك شاذ. وقبل ان نتحدث عن كل منهما لابد من الاجابة عن السؤال الاتي: ما هو السلوك؟ في الاجابة عن هذا السؤال نقول: السلوك هو التصرف الذي يقوم به الفرد في ظروف محيطه البيئية والاجتماعية، في شكلها العام، انطلاقا من حالة نفسية داخلية جعلت الانسان يتصرف ذلك التصرف ، فالأنسان الذي يراقب تصرفاته وسلوكه بشكل عام ويحاول أن يطهر نفسه من كل مظاهر الأمراض النفسية كالحقد والكره والبخل والحرص والأستغلال والظلم وأن يسعى لخدمة مجتمعه وأن يستثمر طاقاته بالشكل الأمثل وأن يكون لديه إندفاع إيجابي في مجال عمله وأن يكون على مستوى من الطموح يتناسب وقابلياته وقدراته يمكن أن نسميه الشخص السوي أي ذو شخصية سوية وعليه فان السلوك_السوي هو السلوك العادي أي المألوف والغالب على حياة غالبية الناس و الشخص_السوي هو الشخص الذي يتطابق سلوكه مع سلوك الأفراد والآخرين سواء أكان ذلك في تفكيرهم ومشاعرهم ويكون سعيداً ومتوافقاً شخصياً وانفعالياً واجتماعياً . أما الشخص_اللاسوي فهو الذي يختلف سلوكه عن الشخص السوي في تفكيره ومشاعره وعلاقاته مع الآخرين ويكون غير متوافق ذاتيا وأنفعاليا وأجتماعيا وبشكل تسيطر عليه نزعاته النفسية وغرائزه الحيوانية ويكون عرضة للأمراض النفسية والعقلية والتي تنعكس بشكل واضح في سلوكه وأخلاقه مع الآخرين من أبناء مجتمعه وبهذا يكون من السهل علينا أن نحدد من هو المريض نفسيا ولكن من الصعب أن نحدد من هو السوي وهذه الصعوبة منشؤوها يكمن في طبيعة الأنسان نفسه إذ أنه كائن معقد السلوك ومتغير المزاج في كل لحظة إذ أن هناك الكثير من أوجه الحياة النفسية يصعب تحسسها من خلال ملاحظة سلوك الفرد وبالتالي يصعب قياسها مثل أوجه الحياة العاطفية والأنفعالية. فقد لا تنعكس في مظاهر سلوكه كما يراه الآخرون لذا فمن غير الممكن الأستدلال عليها إلا من خلال الفرد نفسه بالاضافة الى المقربين. ويمكن تعريف اللاسوي / الشذوذ: هي الانحراف عما هو عادي والشذوذ عما هو سوي، واللاسوية هي حالة مرضية فيها خطر على الفرد نفسه أو على المجتع تتطلب التدخل لحماية الفرد من خطره ، والشخص اللاسوي هو الشخص الذي ينحرف سلوكه عن سلوك الشخص العادي في تفكيره ونشاطه ويكون غير سعيد وغير متوافق لاشخصياً ولا انفعالياً ولا اجتماعياً . ان الفصل بين الشخصية السوية والشاذة ليس بالأمر اليسير وذلك لاختلاف وجهات النظر الى السواء والشذوذ ، وهناك من يذهب ـ متطرفاً الى انه لايوجد ذلك الذي نسميه بالانسان السوي، ولكنه مع ذلك هناك بعض المعايير التي يشير اليها المختصون بالصحة النفسية والتي من الممكن ان نميز من خلالها بين السواء والشذوذ ، ولعل من بينها ، المعيار الاحصائي ، الذي يعتمد اساسا ً على الفكرة التي تقول بأن الصفات المختلفة ، سواء كانت جسمية أو نفسية أو عقلية ، تميل في توزيعها بين الأفراد الى الاعتدال ، بحيث نجد ان أغلب الناس يملكون من هذه الصفات شيئاً متفاوةً وقليل منهم يتطرفون في زيادة السمة أو نقصانها، وهؤلاء هم الشواذ، ولكن هذا الاسلوب نجد صعوبة في تعميمه مما يجعله صالحاً لتحديد السواء والشذوذ في بعضها مثل السمات الجسمية كالطول والوزن….الخ .. ولكنه غير صالح في تحديد سمات اخرى مثل الذكاء ، اذ لايمكن اعتبار الافراد ذوي الذكاء المنخفض جداً غير اسوياء وكذلك اصحاب الذكاء العالي ، اما المعيار الحضاري ، فانه يقوم على اساس ان السمة المقبولة هي التي يتقبلها عدد من الناس، ومعنى ذلك ان الشخص السوي هو المتوافق مع المجتمع ، أي من استطاع ان يجاري قيم الجتمع وقوانينه ومعاييره واهدافه ، ولكن الاعتراض الأساسي على هذا المعيار ، هو ان السلوك الذي يبدو غير سوي في ثقافة معينة ، قد يكون غير مقبول تماماً في غيرها من الثقافات ، كما انه ليس كل ماهو سائد في المجتمع يعتبر مقبول . من الصعوبة وضع حدود فاصلة بين الشخصية غير السوية او الشاذة ، فهناك صعوبات ايضاً في تحديد الشخصية السوية ، ولعل من هذه الصعوبات ان من المستحيل وصف الشخصية لأننا لانستطيع ان نصف اية شخصية ككل اذ من الممكن وصف الكثير من الخصائص الفردية عن طريق ملاحظتها او الكشف عنها بوساطة الاختبارات المختلفة الا ان الكثير من العمليات العقلية وأوجه الحياة العاطفية الدقيقة تبقى بعيدة عن الملاحظة والقياس ، كما ان هناك صعوبة اخرى تتعلق بالمعيار الذي يحدده مقدار ما يتوافر في كل سمة من هذه الشخصية ، فالكرم سمة مرغوب فيها ولكن المبالغة في هذه السمة تصبح اسرافاً أو تبذيراً ، وهي سمة غير مرغوب فيها ، وسوف نستعرض اراء بعض علماء النفس الذين اشاروا الى ماينبغي ان تتمتع به الشخصية السوية . 1ـ يرى (( هاري ستاك سوليفان )) ـ ان الشخصية السوية هي تلك التي تقيم علاقات سوية مع الآخرين وان مفاهيمها عن نفسها وعن الناس دقيقة وواقعية ، وان حاجاتها مشبعة ولاسيما ( حاجاتها الى الأمن ) . 2 ـ ويؤكد (( كارل روجرز )) ـ ان الشخص السوي هو الذي يقبل ذاته كما هي من دون احساس بالنقص او بالدونية ولا يبالغ في هذا التقرير ، كما انه مستعد لتقبل الخبرات الجديدة ويقبل عليها ، وهو قادر على استغلال امكاناته وقدراته واستعداداته . 3 ـ ويرى (( ماسلو ))ـ ان الشخصية السوية هي تلك التي اشبعت حاجاتها الاساسية البيولوجية وحاجاتها للأمن والحب والانتماء ، والتقدير ، واذا تم ذلك سوف توجه طاقاتها نحو تحقيق الذات ، أي الانتاج العلمي او العملي . 4 ـ في حين يشير (( فروم )) ـ الى ان الشخصية السوية هي الشخصية المنتجة ، أي تلك التي تكون قادرة على الاتصال بالبيئة المادية والاجتماعية لأنتاج الأشياء وتهيئة الظروف للنمو والسعادة ، وهو قادر على استخدام مهاراته ومعلوماته على انتاج كل ماهو ضروري لجعله سعيدا ً . 5 ـ وان وجهة النظر الفرويدية فانها ترى / ـ ان الشخصية السوية ، هي التي اشبعت حاجاتها الكلية دون الاحساس بالخجل أو القلق او الشعور بالذنب او الاثم ، الذي يؤدي بها الى الاحساس بالنقص أو الدونية ، فيجعل سلوكها مضطرباً . تختلف وجهات النظر لدى العلماء المعنيين بدراسة علم النفس والسلوك في تحديد الشخصية السوية واللاسوية اذ تبنت كل مجموعة معايير عدة وساد في الاوساط العلمية عدد منها نذكر بعضها : 1- معايير تحديد السلوك السوي :. أ. الفاعلية: وذلك بأن يتصرف الشخص بشكل إيجابي يحقق النتائج المطلوبة لحل المشكلات التي يواجهها رغم ما يعترضه من عقبات أو صعوبات. ب. الكفاءة: وذلك بأن يكون قادراً على استخدام ما لديه من إمكانات بفاعلية لتحقيق ما هو ممكن أو متاح. ج. الملائمة: وذلك بتوافق السلوك مع عمر صاحبه, ومع خصائص الموقف الذي يتم فيه السلوك. د. المرونة: الشخص السوي هو القادر على تكييف سلوكه وفقاً لما تحتاجه المواقف أو الظروف المتغيرة. هـ. الاستفادة من الخبرة: وذلك بتوظيف تجاربه وخبراته والاستفادة منها في توليد السلوك الجديد. و. القدرة على التواصل الإنساني: وهي حاجة من الحاجات الأساسية التي لا غنى عنها, والشخص ذو السلوك السوي هو القادر على تحقيق هذا التواصل على نحو مقبول ومرضي. ز. تقدير الذات: وهو الشخص القادر على تقييم ذاته بموضوعية, مميزاً لجوانب القوة والضعف لديه, ويعمل على تعزيز جوانب القوة لديه واستكمال جوانب الضعف ومعالجتها. 2- معايير تحديد االسلوك اللاسوي: . أ. معيار النشاط المعرفي: وذلك بأن تحدث إعاقة لأي من القدرات العقلية كالإدراك, أو التذكر, أو الانتباه, أو الاتصال . ب. معيار السلوك الاجتماعي: وذلك عندما ينحرف السلوك عن القيم والعادات والتقاليد, أو أن يكون مخالفاً للاتجاهات الدينية أو العقائدية السائدة. ج. معيار التحكم الذاتي: وذلك عندما يعجز الفرد عن التحكم بسلوكه, مع استمرار هذه الحالة أو تكرارها بشكل كبير. د. معيار الضيق والكرب: عندما يعبر الفرد عن معاناته, أو ضائقة بطريقة يتجاوز فيها حدود المعقول فإن هذا يعتبر سلوكاً يحتاج إلى معالجة. هـ. معيار الندرة الإحصائية: حيث يتوزع أفراد المجتمع وفقاً للمنحنى السوي, بحيث يتمركز غالبيتهم في منطقة الوسط وحوله, بينما يتواجد بعض أفراده على أطراف المنحنى, والشخص الذي يوسم سلوكه بالسوي لا يكون من أفراد المجتمع المتواجدين على الأطراف. و. المعايير النمائية: إذ إن لكل مرحلة عمرية مظاهرها النمائية والسلوكية , فإذا تجاوز سلوك الفرد إلى مراحل سابقة, كان سلوكه غير سوي. ز. معيار الإقرار الذاتي: ويقوم على إقرار الفرد من تلقاء نفسه بأن سلوكه غير سوي. ولعلَ هذا المعيار يحتاج إلى درجة عالية من الموضوعية إذ أن قلة من الناس من يمتلك القدرة على الاعتراف بأن سلوكه غير مقبول وأنه بحاجة إلى علاج. ح. المعيار الطبيعي: إن سلوك الفرد ينبغي أن يكون متوافقاً مع الفطرة السوية كما يخضع لقانون المحافظة على النوع وتناسل الكائنات الحية ومنها الإنسان, فإذا كان سلوك الإنسان لا يتفق مع أسس بقائه فإنه يكون غير سوي. المعايير في الصحة النفسية لقد واجهتنا جميعاً ولو لمرة واحدة في حياتنا المفاهيم المتزاوجة السواء- الشذوذ، الصحة – المرض، التطابق …التكيف، سوء التكيف… الانحراف….الخ. ونحن نستخدم هذه المفاهيم في أطر مختلفة للإشارة إلى مجموعة كبيرة من الظواهر السلوكية الفردية والجماعية والاجتماعية التي تبدو غير مألوفة وغير معتادة أو للإشارة إلى وجود نوع من الخلل والاضطراب. وعندما نحاول وصف سلوك ما ونستنتج هنا وجود اضطراب ما ، فإن هذه العملية هي نتاج لعملية تقويم Evaluation ، تقوم على فرضيات محددة تستند بالأساس إلى إطار مرجعي محدد، إلى معيار، حتى لو كان هذا الإطار المرجعي أو المعيار غير واضح دائما، ً إلاّ أنه موجود في أي تقييم مهما كان نوعه. ويغلب أن يختلف هذا التحديد لطبيعة السلوك باختلاف الإطار المرجعي للمقيمين ، أي خلفيتهم النظرية، وباختلاف الغرض من التقييم: هل هو تربوي ، نفسي –تشخيصي، اجتماعي، إكلينيكي- مرضي ..الخ. ويقوم تقييم مظاهر الصحة النفسية أو الاضطرابات النفسية أو الانحرافات استناداً إلى مقدار انحرافها عن القيم المتوقعة وعن المعيار الشائع أو المستخدم وعن القيم الواجبة. ولا بد من الإشارة هنا إلى الصعوبات الكبيرة التي تواجهنا في تقييم مقدار الانحراف أو الشذوذ في الظاهرة النفسية الإكلينيكية لتشابك وتداخل العوامل بين ما هو صحي أو مرضي، بين ما هو سوي أو منحرف ولنسبية مفهومي ” السواء والشذوذ ” بحد ذاتهما،الأمر الذي يصعِّب التقييم حتى عند وجود المعيار. وللمعيار عدة معان، فهو: 1) خط مُوَجِّه ، 2) مؤشر، 3) مقياس، 4) تعليمات يتم العمل وفقها، 5) قيمة واجبة تقاس الأشياء على أساسها. وتشترك هذه المعاني جميعها بمظهر المقارنة. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن القياس ي علم النفس عموماً هو عبارة عن مقارنة بين الأفراد في سمة ما أكثر منها عملية قياس كمية لما يملكه الأفراد من هذه السمة، فإن الأساس الذي يتم وفقه بناء المعيار هو المقارنة بين سمات متعددة عند الفرد أو بين الأفراد. أما الأداة التي يمكن بناء التقويم على أساسها فيمكن أن تكون التوقعات، أي ما يتوقع من سلوك الفرد في موقف معين وفي سن معينة أو على أساس المقاييس الموضوعية أو المقاييس أو الشخصية. مفاهيم مختلفة للمعيار في علم النفس والصحة النفسية ميز آيزينك في عام 1977 في ‘طار تقويم السلوك السوي و السلوك الشاذ، أو بين الصحة النفسية والاضطراب بين ” المعيار الإحصائي ” و ” المعيار المثالي” “والمعيار الطبيعي “. ويؤكد انه لابد من الانتباه بصورة خاصة إلى عدم الخلط الذي يحدث أحياناً بين معنى السواء الذي يتم وفق المعيار الإحصائي والمعيار المثالي عندما يتم استخدام الكلمة ” سواء ” لوصف حالة نفسية سليمة. فنحن إذا ما قرأنا في مرجع من مراجع التحليل النفسي بأنه ليس هناك من إنسان ” سوي”، أو ليس هناك من إنسان “سليم” نفسياً، فالمقصود هنا مفهوم “السواء” بمعناه المثالي وليس بالمعنى الإحصائي. إذ أن الخلط هنا سيقودنا إلى تفسيرات غير معقولة على الإطلاق. يستند مفهوم المعيار الإحصائي إلى أكثرية الناس، أما المعيار المثالي بالمقابل فهو يصف الحالة التي ينبغي للإنسان الوصول إليها، أي يصف ما يجب أن يكون وليس منا هو قائم بالفعل. أما السواء بالمعنى “الطبيعي” فيصف ما هو السلوك الذي يعتبر”طبيعياً”، كالعلاقة الجنسية الغيرية بين الرجل والمرأة على سبيل المثال. ويرى آيزينك أن ” المعيار الطبيعي” يستند إلى المعيار الإحصائي أصلاً. فنحن نطلق تسمية “طبيعي” على أشكال السلوك التي تكثر ممارستها في مجتمع معين، على ما اعتادت غالبية الناس ممارسته والقيام به. ويرى آيزينك أنه من الأهمية بمكان النظر إلى معاني ” السواء ” و “الشذوذ” بشكل نسبي. إذ أنه يرى أنه لا توجد معايير عامة أو مطلقة للسلوك أو لما يجب أن يكون عليه السلوك. وحاول إثبات وجهة نظره هذه من خلال أمثلة من المجال الأنثروبولوجي ومن دراسات كنزي حول السلوك الجنسي للأمريكان. غير أن المشكلة في حجج آيزينك أنها تحمل في طياتها نسبانية ثقافية، تركز على اختلاف الشعوب والسلوك الجنسي في الطبقات المختلفة للمجتمع الأمريكي، ولكنها تغفل إي نوع من الأمور المشتركة المستنتجة بين جميع شعوب الأرض، مثل تحريم غشا المحارم التي يمكن ملاحظتها في المجتمعات كافة. ومن أجل التوضيح الأفضل لهذه الإشكالية المتمثلة في وجود اختلافات وربما تناقضات كذلك في قناعات الناس ، يذكر راينئكر (1994) الأمثلة التالية المقتبسة عن فرنكينا Frankena,1986) ). ففي بعض المجتمعات البدائية غالباً ما يعتقد الناس أن على الإنسان قتل والديه قبل أن يشيخا. وهنا يمكننا أن نسأل فيما إذا هذه الاختلافات عن ثقافتنا قائمة بالفعل أم أنه تكمن خلف هذه الفروق الظاهرية أشياء مشتركة أساسية. والإجابة عن هذا السؤال تكمن في معرفة الدافع الكامن خلف هذا السلوك الظاهر. فمن وجهة نظر هذه القبائل البدائية إنه من الأفضل بالنسبة للوالدين الرحيل إلى الآخرة والإنسان ما يزال في حالة جسدية جيدة بعد، فالحياة الآخرة تحتاج لأناس أقوياء أصحاء وليس إلى أشخاص ضعفاء ومرضى. ويشير هذا المثال إلى أن الدافع الكامن خلف هذا السلوك هو واجب عمل الأفضل مع الوالدين . كما وأشرنا في المدخل التاريخي إلى الكيفية التي كانت تتم وفقها معاملة المرضى نفسياً والمعوقين في العصور الوسطى. فمن وجهة النظر الخارجية يعد هذا السلوك سلوكاً لا إنسانياً، أما الدافع الذي كان يكمن خلف هذه الممارسات فهو الاعتقاد بأن التعذيب والسجن والتقييد يساعد المريض من التحرر من مرضه، وأن التعذيب والضرب، أخف شدة من مقدار المعاناة التي يعانيها هؤلاء المساكين. ويظهر هذين المثالين أن المعايير الأساسية العامة تمتلك صلاحية مطلقة في كل المجتمعات، غير أن تطبيقها يتعلق بالظروف الخاصة بالمجتمع. ويورد هوفشتتر ( Hofstaetter) تفريقاً مشابهاً لآيزينك حول المعايير المهمة في علم النفس. وهو يفرق بين المعايير الإحصائية و المثالية والوظيفية. وسوف نتبع في العرض التالي عرضه للمفاهيم المختلفة #للمعايير لاستخدامها الواسع في علم النفس. المعيار الإحصائي يقوم هذا النوع من المعايير على مدى تكرار أو توزع سلوك ما في مجتمع من المجتمعات أو في عينة منه ويتم تمثيل هذا التوزع أو التكرار في توزع جرس غاوس. وتطلق على المجال المتوسط في هذا التوزع تسمية المدى الطبيعي أو المدى المتوسط أو السوي، حيث يساوي المجال المتوسط هنا المتوسط الحسابي الانحراف المعياري). في حين تعتبر المجالات المتطرفة الموجودة في كلا الجانبين ” شاذة أو غير سوية “. ومن خلال المدخل حساب المعايير الإحصائية يتم تحديد القيمة التي يعتبر عندها السلوك قد تجاوز المعيار. فالشخص الذي يمتلك في سمة من السمات أو يتصرف في موقف من المواقف بشكل أقل أو أكثر من المجال المتوسط في جمهور مماثل، يعد سلوكه منحرفاً عن المعيار أو ملفتاً للنظر، أو غريباً…الخ. ويعد المعيار الإحصائي سهل التمثيل والفهم، غير أن دقته الإحصائية تعتمد على مدى جودة ودقة اختيار العينة الممثلة للسلوك المراد تحديده وقياسه. ملاحظات حول المعيار الإحصائي · هناك العديد من الاعتراضات على استخدام المعيار الإحصائي. ويشكل قياس الذكاء والشخصية أحد الأمثلة على ذلك. فالذكاء لا يعتبر غير سوي (أو شاذاً) إلا عندما تقع درجة ذكاء الفرد المجال المنخفض فقط من مقياس التكرار الطبيعي ممثلاً بمنحنى غاوس (أي م-2ع فما فوق). أما الدرجة المرتفعة من الذكاء أو حتى العبقرية (أي م +2ع فما فوق) فلا تعتبر أمراً شاذاَ أو غير سوي، على الرغم من الانحراف الإحصائي الواضح عن المعيار في الذكاء بالاتجاه المرتفع.بل على العكس من ذلك يتم تقييمهما بشكل إيجابي، ذلك أن الذكاء المرتفع والإبداع أمران مرغوبان ومطلوبان اجتماعياً واقتصادياً. بالإضافة إلى أنه لا تتم معاملة الشخص الذي يمتلك ذكاء مرتفعاً على أنه إنسان منبوذ أو يحتاج إلى تدخل لإعادة ذكاؤه إلى الدرجة المتوسطة. من ناحية أخرى و في غالبية سمات الشخصية يتم اعتبار الانحراف في كلا المجالين انحرافاً غير سوي (أي م2ع فما فوق). فالسلوك المتوافق بشدة مع المعيار كالسلوك مفرط التكيف أو السلوك المنحرف بشدة عن المعيار كالسلوك مفرط النشاط مضطربان في كثير من الحالات، أي غير سويين. فالتطرف في كلا الاتجاهين هنا أمر غير مرغوب. · وهناك مشكلة أخرى يواجهها المعيار الإحصائي. إذا وجدت في عينة أو جمهور ما تكرارات كبيرة لعاهة ما كقصر البصر، أو سوء التغذية؛ أو تعاطي الكحول أو التدخين، فإن نتيجة ذلك ستكون اعتبار هذه العادات ” سوية ” بالنسبة إلى التوزع الإحصائي الطبيعي. وتشكل أمراض الحضارة التي يعاني منها عدد كبير من السكان مثالاً موضحاً لذلك بصورة أكبر. لنأخذ ظاهرة تسوس الأسنان على سبيل المثال. فوفقاً لإحصاءات عالمية يعاني بين 60-80% من السكان من تسوس الأسنان. وعلى الرغم من هذا العدد الكبير من الأفراد الذين يعانون من تسوس الأسنان فلن يستطع أحدهم الدعاء أن تسوس الأسنان أمر طبيعي أو صحي. · وهناك اعتراض ثالث على المعيار الإحصائي ينبع من حقيقة أن سمات الإنسان لا تتوزع كلها توزعاً طبيعياً، وإنما تخضع لتوزع آخر مثل توزع بويسونPoisson أو توزع الأحداث النادرة . وتوزع بويسون هو توزع عشوائي غير متناسق ناجم عن التوزع ذي الحدين . ويسمى توزع الأحداث النادرة لأن احتمال أن تنطبق فيه سمة ما على شخص ما يمكن أن يكون صغيراً جداً. وبناء على ذلك يكون استخدام المعيار الإحصائي وحده لتفسير الظواهر والحكم فيها على مقدار “السواء” و “الشذوذ” غير كاف. ولحل مشكلة المعيار الإحصائي هذه اقترح شميدت (1984) المبدأ الذي اتبعه بيج ( Page, 1971) ، والذي ينادي بربط التوزع الإحصائي أو الطبيعي بمنظومة من القيم، وقد استخدم لذلك خمسة معايير أساسية متلازمة مع بعضها من أجل تقييم مقدار ” السواء والشذوذ”: 1) الوظائف النفسية: فحص مستوى قيام الوظائف النفسية (الجانب الانفعالي والدافعي والمعرفي) بعملها بشكل متناسق مع بعضها، وعدم وجود خلل في عملية الإدراك وتقييم العالم الموضوعي بصورة متطابقة مع الواقع. ويختلف قيام الوظائف النفسية بعملها في حالات السواء والمرض كما ويختلف مستوى قيام هذه الوظائف بعملها في الحالات المرضية المختلفة، بحيث يمكننا تحديد نوع الاضطراب من خلال نوعية الخلل في قيام الوظائف النفسية المختلفة بعملها. 2) نوعية السلوك الاجتماعي (المعيار الاجتماعي): ويتم هنا تقييم مدى انسجام السلوك مع القيم والمعايير الاجتماعية السائدة وعدم انحراف السلوك عما هو مألوف ومعتاد في المجتمع المعني الذي ينتمي إليه. ولا يعني هذا مسألة تقبل الفرد الكامل والخضوع لجميع معايير المجتمع وقيمه، وإنما يعني انسجام هذا السلوك مع ما يتوقعه المجتمع من الفرد وعدم وجود سلوك مضاد أو مؤذ للمجتمع يسعى إلى تحطيم قواعد العيش المشترك. 3) مقدار ضبط الإرادة والسيطرة عليها: وتعني قدرة الإنسان على التحكم بدوافعه وانفعالاته في إطار موقف ما وتأجيل إشباع ما لايمكن إشباعه في الوقت الراهن. 4) التقويم من خلال المجتمع (المنظور الخارجي للتقييم أو ما يسمى بمنظور الآخر): وتعني الكيفية التي يقيم من خلالها المجتمع سلوك أفراده. وهنا نشير إلى وجود اختلافات أيضاً بين المجتمعات وضمن المجتمع الواحد في أسلوب تقييم السلوك الواحد.. فقد ينظر شخص ما لسلوك على سبيل المثال لسلوك طفله العدواني تجاه شخص آخر على أنه شاذ وغريب، في حين ينظر شخص آخر إلى السلوك نفسه على أنه سوي وطبيعي. 5) التقويم من خلال الفرد نفسه (المعيار الذاتي للتقييم): الكيفية التي ينظر فيها الشخص لذاته وسلوكه من منظوره الخاص. والانحراف في الاتجاه الأول يسمى ” المعيار المثالي ” كالذكاء المرتفع، ويسمى الانحراف في الاتجاه الآخر ” المرض النفسيPsychopathology “. كما وأن منظومات التشخيص العالمية للاضطرابات النفسية التي تأخذ بمبدأ التشخيص المتعدد الأبعاد تحاول من خلال ذلك تجنب السلبيات الخاصة التي يمكن أن تنجم عن هذا المعيار والمعايير الأخرى منفردة. فالدليل التشخيصي الإحصائي الرابع الصادر عن الجمعية النفسية الأمريكية يحدد على سبيل المثال خمسة محاور، يطلق عليها تسمية التقويم متعدد الأبعاد للحكم على وجود اضطراب أو تضرر في الصحة النفسية. 1) فعلى المحور الأول يتم تشخيص الاضطراب الإكلينيكي، كاضطراب القلق أو الفصام أو اضطرابات الطعام..الخ. 2) وعلى المحور الثاني يتم تشخيص اضطرابات الشخصية (تشخيص الشخصية)، على نحو اضطراب شخصية زورية (بارانوئية)، شخصية هيستيرية، مضادة للمجتمع…إلخ. 3) أما المحور الثالث فيشخص العوامل المرضية الطبية. أي الأمراض الجسدية التي يمكن أن تكون على علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالاضطراب النفسي، كأمراض الغدد، أو امراض الدورة الدموية أو أمراض التنفس أو أمراض ولادية أو تسممات وإصابات…الخ. 4) وعلى المحور الرابع يتم تشخيص المشكلات النفسية الاجتماعية والمشكلات المرتبطة بالمحيط، أي يتم تشخيص التكيف، على نحو مشكلات مع المحيط الاجتماعي، مشكلات مهنية، أو أسرية أو اقتصادية، أو مشكلات سكن مشكلات مع القانون..الخ. 5) ويتضمن المحور الخامس مستوى قيام الوظائف النفسية بعملها والإدراك العام، على نحو تضرر السلوك من خلال أفكار هذيانية، قصور في إدراك الواقع، قصور في ضبط الواقع، عدم القدرة على التواصل، وجود خطر إلحاق الأذى بالآخرين، بالإضافة إلى أعراض طفيفة أخرى كصعوبات التركيز و اضطرابات النوم..الخ. وتظهر الأمثلة أن تمييز السمات من خلال التوزع الطبيعي وفق المعيار الإحصائي يتم وفق مستوى كمي وليس نوعياً، أي مقدار ما يوجد من الانحراف عن المتوسط عند فرد ما في سمة ما. ومن ثم فإن كل فرد يمتلك درجة تنحرف بمقدار ما عن متوسط السمة المقاسة، كالقلق والاستقرار الانفعالي على سبيل المثال. وبالتالي يمكن لأي إنسان أن يتصور معنى مشاعر القلق مثلاً وتقدير مدى شدتها عنه أو عند غيره. وبالتالي هنا نتحدث عن وجود القلق بدرجات عند الأفراد مثلاً. ولكن في تقييم كثير من السمات الأخرى تحتل الوجوه النوعية أهمية كبيرة كما هو الأمر في الاضطرابات الذهانية (كالفصام) حيث تتضرر نوعية الخبرة بدرجة لا يمكن ملاحظتها في حالة السواء. وهنا لا نستطيع أن نتحدث هنا بلغة المتدرج أو المتوسط، ذلك أن الإنسان هنا إما أن يكون سليماً أو مريضاً ولا يوجد أمر وسط بينهما. وهو ما نقاشناه كذلك في تعريفنا للصحة. المعيار المثالي يقصد بالمعيار المثالي حالة من الكمال ( الينبغيات )، مجموعة من الشروط الواجبة، المستقلة عن الواقع والزمان، يعتبر الوصول إليها والسعي نحو تحقيقها أمراً جديراً بالطموح. وتصف المعايير المثالية الإمكانات التي تستحق السعي للإنسان المفيدة كنموذج، كقدوة للطموح، كمثل أعلى والسلوك الإنساني. ويتم تقييم “السواء” أو ” الشذوذ ” في هذا المعيار من وجهة نظر أخلاقية أو دينية أو إيديولوجية أو من خلال قيم أخرى. وكل إخلال في هذه المعايير يعد انحرافاً وبالتالي شذوذاً. ويقوم مفهوم الصحة الذي صاغته منظمة الصحة العالمية والذي سبق ذكره على أساس المعيار المثالي. وهنا تعد الصحة بأنها الحالة المثلى من الإحساس الجسدي والنفسي وليس مجرد غياب المرض. ويشكل ” الشخص السليم كلية” fully functioning Person عند كارل روجرز، الشخص الذي يكون منسجماً مع ذاته ومتعاطفاً معها وقادراً على التعبير بحرية عن مشاعره وخبراته الانفعالية ويملك مفهوماً واقعياً عن ذاته…الخ، مثالاً على المعيار المثالي. ويرتبط المعيار المثالي ارتباطاً وثيقاً مع المعيار الاجتماعي والمعيار الشخصي (الذاتي). ويقصد بالمعيار الاجتماعي توقعات مجموعة ما من سلوك شخص ما، وترتبط هذه التوقعات الاجتماعية بالعادات والقيم والمعايير السائدة في المجتمع وبتوجه المجتمع الديني والسياسي والأخلاقي والاقتصادي. أما المعيار الشخصي أو الذاتي فيحتل التقييم الذاتي للشخص نفسه موقع الصدارة. وهما قد يتعاكسان أو يتناقضان مع بعضهما أو قد يتطابقان. ويعتبر الإحساس الذاتي هو المنطلق المركزي للتقييم في المعيار الشخصي. ولكنه يتأثر بشكل خاص بالمعايير الاجتماعية والمثالية بشدة. فهو وإن كان قائماً على الرؤية الذاتية إلاّ أن هذه الرؤية لا تتشكل في النهاية من فراغ وإنما تستمد بالأصل أحجار البناء التابعة لها من الإطار الاجتماعي ( التنشئة الاجتماعية ) ومن الإطار المثالي ( القيمي ) السائد في محيط الفرد المباشر وغير المباشر. ملاحظات حول المعيار المثالي: غالباً ما يظل تحقيق المعايير المثالية مطلباً فحسب ، ذلك أنها تطرح معياراً مطلقاً مصاغاً بشكل مستقل عن المعطيات الواقعية. وإذا حاولنا تعريف المرض أو الاضطراب وفق المعيار المثالي فسنجد أن ذلك غير ممكن على الإطلاق. عدا عن أنه في هذا المعيار يفهم المرء المرض النفسي على أنه انحراف عن تركيبة من النمط المثالي للصحة. غير أن الوصف الدقيق لهذه التركيبة المثالية للصحة يصعب القيام بها. فالسؤال عن ما هي الصحة مثلاً يمكن أن يقود إلى وضع قائمة لا تنتهي من المعايير وكل معيار من هذه المعايير يكون مشكلة بحد ذاته لصعوبة قياسه. ومن أجل تقييم أنماط السلوك يمكن كذلك استخدام معايير مختلفة، اجتماعية وشخصية ودينية وإيديولوجية والتي يمكنها عندئذ أن تقود إلى استنتاجات متناقضة، ذلك أن المعيار المثالي يشتق على أساس منظومات مختلفة من القيم، ومتناقضة في بعض الأحيان. وتعريف الاضطرابات النفسية وفقاً للمعايير الاجتماعية أو الفردية أو الذاتية وحدها يبدو صعباً جداً ذلك أن هذه المعايير غالباً ما تكون غير واضحة كفاية كما وأن مجال صلاحيتها ومجال التسامح فيها غير واضحين ويبقى أمر كيف ومن خلال من يتم تطبيق هذه التقييمات معلقاً إلى مدى بعيد. المعيار الوظيفي يقصد بالمعيار الوظيفي عموماً الحالة المتفقة مع الفرد فيما يتعلق بأهدافه وقدرته. فمثلا يمكن للعمل في أيام العطل أن يكون محرماً أو ممنوعاً وفقاً للمعيار المثالي، ومحاولة وضع تكرار إحصائي سوف تقود إلى نتيجة مشابهة، أي أن عدد قليل من الناس هم الذين يعملون في أيام العطل. ولكن عندما نتأمل هذا من وجهة نظر معيار وظيفي، فإنه يمكن النظر للعمل بالنسبة لشخص ما على أنه أمر اعتيادي من الناحية الوظيفية. بكلمات أخرى عندما تتم معرفة الهدف الكامن خلف هذا السلوك نستطيع تقييمه على أنه “سوي” أو “مضطرب”. ملاحظات حول المعيار الوظيفي في المعيار الوظيفي يتم افتراض وجود علاقة وظيفية بين وضع الفرد و نشاطه الهادف. فالسلوك الذي يقوم به الفرد ويكون متناسباً مع المرحلة العمرية التي يمر بها ومع إمكاناته السلوكية يعد “سوياً”. ولا يمكننا التحدث عن ضرر وظيفي (اضطراب أو عدم سواء) إلاّ إذا أخفق الإنسان في التغلب على وظيفة محددة على الرغم من أن إمكاناته المتوفرة تمكنه من التغلب عليها. ويمثل الإخفاق في الامتحان على الرغم من التوفر الكافي للمعارف و المعلومات مثالاً لذلك. وفي المعيار الوظيفي يحتل التضرر الوظيفي ( أي السلوك المنحرف أو الشاذ) مركز الصدارة وليس الشخص. فالتقييم يتم للسلوك. وفي المجال العلاجي تعد العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية الاقتصادية، التي تقيد من حرية النمو الواقعي عند المتعالج من العوامل المهمة في التقييم من خلال منظور المعيار الوظيفي. وتقوم التصورات الوظيفية على المبدأ التوازني القائم على التوازن الديناميكي للعضوية بين الجوانب النفسية والبيولوجيةً، حيث يعتبر هذا التوازن حالة مبتغاة من السواء. أما الفائدة الأساسية للتصورات الوظيفية في وصف السواء فتتمثل في تصورها للمنظومة الديناميكية للإنسان. حيث ينظر للإنسان هنا على أنه لا يتميز بقدرة عالية على التكيف فحسب وإنما يسهم بشكل فاعل في كل في عملية التكيف وما ينجم عنها. ولكن الإشكالية الأساسية للرؤيا الوظيفية تتمثل في وجوب الاعتماد في الحكم على السواء إلى إطار منظومة عليا أو منظومة كاملة.وبالتالي فإن الحالة السوية لا يمكن تحديدها إلاّ عندما نعد المنظومة التي نفحصها على أنها جزء من وحدة عليا ، كأن ننظر للفرد بوصفه فرداً ضمن إطار مجموعة، والمجموعة باعتبارها مجموعة ضمن جماعة …وهكذا، أو عندما نحدد السواء من خلال تحديدنا للهدف الكامن خلف السلوك. المعيار التفاعلي إن الاعتماد على معيار واحد من المعايير السابقة المذكورة قد يكون له مبرراته في الحياة العملية اليومية ولكن عندما يتعلق الأمر بإطلاق الأحكام التشخيصية في علم النفس المرضي والممارسة العيادية أو الصحة النفسية لا يكفي الركون إلى معيار واحد من هذه المعايير كما نوهنا سابقاً و من المؤكد أن المعايير المختلفة ليست منعزلة عن بعضها وإنما ترتبط مع بعضها بطريقة تفاعلية. وعليه يصف براندشتتر وجود علاقة متبادلة بين المعايير الوصفية descriptive (الإحصائية) و العرفية Prescriptive ( المثالية ، الوظيفية ). فكما يمكن للمعايير الوصفية أن تحدد تكرار أو احتمال ظهور سمات محددة، تستطيع المعايير العرفية أيضاً أن تحصل على معلومات بوساطة الوسائل الإحصائية حول وجود تغير ما. فالخرق المتكرر جداً لمعايير القانون غالباً ما يجلب معه ضرورة التعديل لهذه المعايير. فعندما تنتشر في مجتمع من المجتمعات ظاهرة من الظواهر كازدياد نسبة تعاطي المواد المسببة للإدمان مثلاً، أو ازدياد نسبة الجريمة أو ازدياد نسبة العاطلين عن العمل حتى، ولا تعود القوانين السارية فاعلة كثيراً في مواجهة هذه الظاهرة، تنبع ضرورة تعديل القوانين السارية وإيجاد قوانين بديلة أكثر فاعلية تستطيع الحد من هذه الظاهرة. ومن أجل تصنيف أنماط السلوك بأنها ” سوية ” أو غير سوية ” يمكننا استخدام المعايير المثالية والوظيفية والإحصائية. وبما أن هذه المعايير تقوم على أسس مختلفة، فسوف تظهر لدينا مقولات واستنتاجات مختلفة ومتناقضة أيضاً. ولهذا السبب يتحدث فيتسل عن وجوب استخدام التحديد متعدد الأقطاب ” للسواء” أو ” للشذوذ “. وبطريقة مشابهة ينتقد شينك (Schenk,1977) التعامل مع المعايير الإحصائية. ويظهر بأن كل واحد من هذه المبادئ الطرائقية (المعايير) لا يستطيع أن يكون مقنعاً إذا ا أخذ بحد ذاته كمعيار مستقل، ويؤيد الأسلوب التكاملي الذي يتضمن كل العوامل الثلاثة. بالإضافة إلى أن التحديد المتعدد الأقطاب “للسواء” و “الشذوذ” يتيح لنا إمكانية القيام بعملية تحقيق تصنيفي – تفريقي لأنواع وأشكال ومستويات الأمراض والاضطرابات النفسية والإعاقات المختلفة. فالإعاقة الجسدية يمكن اعتبارها “شذوذاً” من ناحية أن المعيار ” السوي” هو عدم وجود الإعاقة ولكن لا يمكن وضعها على درجة متساوية مع الذهان، باعتباره استجابة عقلية ناجمة عن مرض وهذا الأخير لا يمكن وضعه على المتصل نفسه الذي يقع عليه عدم الاستقرار الانفعالي. وعلى الرغم من أن الأسلوب التوليفي لا يحل المشكلة الصعبة جداً في التفريق بين “السواء” و “الشذوذ” كلية ولكنه يقود إلى مراعاة خاصة للصفات والخصائص والمستويات المختلفة و إلى أخذ الإطار الثقافي الاجتماعي بعين الاعتبار. كما ويؤكد فيتسيل كذلك على ضرورة أخذ السياق الذي يتم فيه التصرف بعين الاعتبار لأن المعايير توضع دائماً من قبل المجموعات أو الأشخاص. المعيار الاجتماعي : ويعتمد هذا الاتجاه على تحديد السوي من غير السوي عبر الالتزام بمعايير وقيم وأعراف المجتمع ، فمسايرة المعايير الاجتماعية هي الأساس في الحكم على السلوك بالسواء أو اللاسواء. ويمكن أن يعرف أيضا بأنه توقعات مجموعة ما من سلوك شخص ما وترتبط هذه التوقعات الاجتماعية بالعادات والقيم والمعايير السائدة في المجتمع وبتوجه المجتمع الديني والسياسي والأخلاقي والاقتصادي . المعيار الذاتي: يعرض هذا الاتجاه، موس (Moss) وهانت (Hant) في كتابهما عن أسس علم الشذوذ النفسي، إذ يذهبان في تحليل البناء الشخصي لكل فرد، إلى الآراء التي يعلنها عمن هو الشاذ ومن هو السوي . فالفرد ينظر إلى الناس جميعاً انطلاقاً من ذاته في تحديد السواء و اللاسواء، ويبدو أن ما ينسجم مع أفكاره وأرائه الذاتية وخبراته السابقة، هو ما يعده الفرد، معياراً لتقييم الآخرين وتصنيفهم، غير أن هذا المعيار يتأثر بطبيعة الحال، بالإطار المرجعي للفرد نفسه. المعيار الطبي النفسي (الباثولوجي): ويشير هذا المعيار الى ان الصحة النفسية تعني الخلو من المرض النفسي او العقلي، فظهور الاعراض العضوية او الخلو منها علامة من علامات الصحة النفسية، ويمكن توضيح وجهة النظر الطبية في ثلاث نقاط: 1- اعتلال الصحة يرجع الى اصابة الجسم بالعدوى عن طريق المكروبات، ممايؤدي الى اعتلال السلوك في بعض الاحيان كالاصابة بالحمى التي قد تؤدي الى الهذيان. 2- اصابة عضو من اعضاء الجسم بخلل او ضعف يوقف عمل جهاز مسؤول عن سلوك الفرد، يحدث ذلك في بعض الحالات الوراثية كالتخلف الذهني الراجع لاسباب وراثية. 3- العوامل الخارجية كالحوادث والاصابات مثل: التسمم، حوادث المرور، ونقص بعض العناصر الغذائية ونقص الاوكسجين، والضغوط البيئية والصدمات النفسية. فهذه العوامل تؤثر ايضا على الصحة النفسية للفرد، ففي حالة ما اذا تعرض فرد معين لحادث مرور، وكان من آثار هذا الحادث اصابة هذا الاخير بصدمة دماغية او اعاقة حركية فانه سيشعر بالعجز لانه لن يتمكن من اداء لاعماله ونشاطاته كما هو قبل الحادث. الامر الذي يجعله يشعر بالاحباط والاسى، وقد يدخل في نوبة اكتئابية بسبب ذلك، فخلو المرض الجسدي وفق هذا المعيار يؤدي الى خلو المرض النفسي. وما يعاب عليه انه ينظر الى الاضطرابات النفسية بنفس النظرة التي ينظر اليها للمرض العضوي، في حين نجد ان معظم الاضطرابات النفسية متعلقة بظروف حياتية لاعلاقة لها بالجانب العضوي. ويرى هذا الاتجاه أن اللاسواء في سلوك الفرد، يعود إلى صراعات نفسية لا شعورية، أو تلف في الجهاز العصبي، لذا فإن اللاسواء هو حالة مرضية فيها خطر على الفرد نفسه وعلى المجتمع، وإن السواء هو الخلو من الاضطرابات والأعراض المرضية . المعيار المعرفي : ويرى هذا المعيار ان الصحة النفسية تتمثل قبل كل شيء في سلامة القدرات المعرفية للفرد من الاعاقة والاضطراب كالانتباه والادراك والتذكر وغيرها . المعيار الديني : يتم اكتساب هذا المعيار من خلال القرآن والسنة النبوية والاراء الدينية المفسرة لهما، ومن خلال التنشئة الاسرية، ومدى التزامها بالمبادىء والمعايير الدينية في حياة الاسرة وأفرادها في مرحلة الطفولة، وهو اول الاطر العامة للحكم على السلوك لو رفضه، أو القيام به، فعند قيام أي فرد باي سلوك يتساءل هل حلال أم حرام . وينظر هذا المعيار الى ان الصحة النفسية تظهر من خلال استقامة الفرد والتزامه بالاحكام والوصايا التي يقرها الشرع المقدس ويرتضيها العقل وتسعى الى اصلاح الفرد والمجتمع . حفظنا الله جميعا حازم خزام بالهيئة العامة للإستعلامات برئاسة الجمهورية