يظل الإنسان يتعلم، مهما بلغ من العمر والمناصب، دون تكبر، فأذكر عندما توليت منصب مدير إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة، ووجدتني مسئولاً عن الإعلام العسكري، فقررت الحصول على الدكتوراه، في مجال الإعلام، وبالفعل شرفني الأستاذ الدكتور فاروق أبو زيد، رحمه الله، عميد كلية الإعلام جامعة القاهرة، آنذاك، بالإشراف على رسالتي بعنوان “دور الإعلام في تحقيق الأمن القومي المصري”، وقررت تطوير أداء الإدارة، فأنشأت مركز الصوتيات والمرئيات، الذي افتتحه الرئيس الراحل مبارك، ليصبح للقوات المسلحة أستوديوهاتها ومعاملها للمونتاج والمكساج، التي تنتج كافة البرامج العسكرية، وحتى أخبار الأنشطة العسكرية كانت تتم داخل هذا المركز، وتسلم إلى المحطات التليفزيونية والإذاعية لتتولى بثها.
في أول أعوام تولي مهمة الشئون المعنوية، حل موعد ذكرى نصر أكتوبر العظيم، فرأيت أن تدور احتفالاته حول تقديم قادة وأبطال حرب أكتوبر العظام، لشعب مصر، ليتعرف عن قرب على ما قدموه لهذا الوطن؛ وكان من بين أبطال حرب أكتوبر، المشير طنطاوي، وزير الدفاع، حينئذ، الذي أقنعته، بعد جهد طويل، بتقديم حلقة تليفزيونية عن دوره في تلك الملحمة العظيمة، ومنها “معركة المزرعة الصينية”، أحد أهم وأشهر معارك حرب 73، شرق القناة، التي انتصر فيها وهو قائد كتيبة مشاه. واخترت الإعلامي القدير الأستاذ مفيد فوزي، لتقديم تلك الحلقة ضمن برنامجه “حديث المدينة”، الذي كان يتصدر قائمة أهم برامج التليفزيون المصري.
اشتركت مع الأستاذ مفيد في إعداد سيناريو الحلقة، وكان معروف عنه تميزه في كتابة جميع سيناريوهات حلقاته، وبخط يده، وقبل تسجيل الحلقة طلب الأستاذ مفيد أن يلتقي بالمشير طنطاوي، ليتعرف عليه عن قرب، لكيلا يكون لقاءهما الأول أمام الكاميرات، وسأله عما إذا كان هناك قيود على أي أسئلة قبل الحوار، فأكد له السيد المشير طنطاوي على مطلق حريته في توجيه أية أسئلة، ما لم يكن في إجاباتها إخلال بسرية القوات المسلحة. ووفقاً للموعد المقرر، تم تسجيل الحلقة، لتبدأ بعدها المهمة الأصعب، وهي المونتاج؛ كان يعمل مع الأستاذ مفيد فوزي طاقم متميز، منهم المصور الرائع الأستاذ حمدي السبروت، والمتميزة، المحترفة الخلوقة مخرجة البرنامج، الأستاذة نادية كمال، رحمة الله عليها.
كانت المفاجأة أنها، أيضاً، مونتيرة، وهو مزيج خاص، يندر وجوده في ذلك المجال، يضيف للعمل احترافية، إذ تجعل العمل متكامل، بإخراجه خلف الكاميرا، وتنفيذه في غرفة المونتاج، تماماً، كما تصورته. حضرت بنفسي جميع جلسات المونتاج، على مدار ثلاثة أيام متتالية، لضمان خروج الحلقة بالشكل السليم، فالمتحدث وزير دفاع مصر، وحديثه له وزن خاص، لا يحتمل أي خطأ. كان الأستاذ مفيد فوزي بقدراته الإعلامية الخاصة، وذكاءه المشهود به، قد تمكن خلال اللقاء من إظهار جوانب خاصة من شخصية السيد المشير طنطاوي؛ فإذا بسيادته يلقي عدد من أبيات الشعر، القديم والحديث، بالفصحى السليمة، وأسلوب إلقاء محترف، وهو ما كان أحد هوايات المشير طنطاوي، التي لا يعرفها إلا المقربون منه.
بعد اللقاء طلب المشير طنطاوي أن أحذف تلك الفقرة أثناء المونتاج، باعتبار أن قائد الجيش المصري له مكانة محددة، يخشى أن تهتز عند إذاعة تلك الفقرة، في حين كان رأيي أن قائد الجيش هو إنسان أولاً وأخيراً، وله جوانب أخرى غير العسكرية. استمر ذلك النقاش، لمدة ثلاثة أيام، طوال مدة المونتاج، حتى وافق المشير طنطاوي، في النهاية، على عرض مقطع صغير من فقرة أبيات الشعر، وراجعنا الحلقة، سوياً، قبل إذاعتها بيوم، ومع ذلك ظل متخوفاً.
وفي يوم السادس من أكتوبر، موعد عرض الحلقة في التليفزيون المصري، كنت أنا، شخصياً، أمام امتحان صعب، في هذه الليلة؛ فأنا صاحب اقتراح ظهور المشير طنطاوي في حوار شخصي، ومؤيد لإذاعة فقرة إلقاء الشعر. وعرضت الحلقة، وحققت نجاحاً كبيراً، وأثنى الجميع على ذلك اللقاء، وعلى فرصة التعرف على الجانب الشخصي من السيد المشير طنطاوي، وقد تلقى، في تلك الليلة، العشرات من المكالمات من أصدقائه وأقربائه، أثنوا خلالها على الحلقة والفقرة الشعرية.
وفي صباح اليوم التالي التقيته في مكتبه، فنظر لي بابتسامته المعهودة، قائلاً “أول وآخر مرة أعمل لقاء تليفزيوني … الحمد لله عدت على خير”، فابتسمت، بينما يدور في ذهني خطة اللقاء التليفزيوني للعام التالي، وهو ما حدث بالفعل؛ فقد علمتني تلك التجربة أنه من حق المواطن التعرف على الجانب الإنساني، لمن يتولون أمره، وأمور أمن بلاده. وهو ما استعدت ذاكرته أثناء متابعة الحوار التليفزيوني الذي أجرته، مؤخراً، السيدة حرم رئيس الجمهورية، الذي مكن المواطن المصري من التعرف على جوانب رائعة وشخصية عن حياة رئيس مصر وأسرته، وهو ما يحتاجه المواطن من وقت لآخر. أما الفائدة الثانية التي خرجت بها من هذه التجربة، فكانت تعلم حرفة المونتاج، حتى ظننت بقدرتي على العمل كمونتير في أي عمل سينمائي أو تليفزيوني … فسأظل أتعلم وأتعلم مادام القلب ينبض بالحياة.