قال حسن إسميك رئيس مجلس أمناء مركز ستراتيجكس للدراسات والأبحاث، إن الملف السوري يشهد اليوم استعصاءً شديداً تعيش بسببه البلاد حالة من “اللاحرب واللاسلم” ، فلا معارك تدور رحاها بشكل واضح، ولا سلم يسمح بعملية إعادة الإعمار، مشيرا إلى أن التفكير المعمق بالمشهد السوري والبحث على حلول، يقود إلى عقدة مركبة وعقبة رئيسة هي إيران ونفوذها في سورية.
أضاف أن العلاقات السورية الإيرانية تعدُّ من أكثر القضايا التي حظيت بالدراسة المكثفة والتتبع الوثيق، وجرت مقاربتها من نواح مختلفة في مراكز القرار في العالم، نظراً لتأثيرها على العديد من الملفات في الشرق الأوسط أولاً، وبسبب طبيعتها “الغريبة” ثانياً. والواقع أن هذه العلاقات تفتقر إلى أبسط مقومات التقارب، وقامت في الأساس لتكون ورقة ضغط بيد البلدين على طاولة التوازنات في المنطقة، وما زالت قائمة بحكم الأمر الواقع الجيوبوليتيكي الشرق أوسطي.
تابع: والأكثر إثارة للاستغراب أن هذه الصلات بشكلها الحالي تنعكس سلباً على كل الجهات ذات العلاقة بما فيها دمشق وطهران، ومع ذلك تفشل كلّ محاولات خرقها، خاصة تلك التي يقوم بها الغرب.
وأشار حسن إسميك، إلى أن الفشل الغربي يرجع إلى سبب رئيس يكمن في تعامله مع طرفي العلاقة بالأسلوب نفسه دون أي تمييز بين الحالتين السورية والإيرانية، رغم الاختلاف الشديد بينهما. وبات من الممكن القول إن سياسات العزل والضغط التي انتهجها الغرب في التعامل مع سورية لم تؤدِ فقط إلى تعزيز علاقاتها مع إيران، بل تمخضت عن نتيجة أخطر وهي ترجيح كفة طهران على حساب دمشق، خصوصاً منذ اندلاع الأزمة السورية مطلع 2011 العام.
لطالما كانت علاقات سورية مع الغرب متوترة تتخللها فترات توافق مرحلية ، فقد كان من الصعوبة بمكان بالنسبة للقيادة السورية أن تصلح علاقاتها المضطربة مع فرنسا مثلاً، الدولة التي استعمرتها، حتى بعد نيلها الاستقلال (1946) بفترة طويلة. ولم يتمكن سوريون كثر، حتى اليوم ربما، من الصفح عن قوى الانتداب الأوروبي الذين اقتطعوا مناطق واسعة من شمال سورية، بما فيها “لواء اسكندرون” ومنحوها لتركيا ثمناً لوقوفها إلى جانبهم ضد التهديد المتزايد حينها من ألمانيا.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد غلب الارتجال على علاقاتها مع سورية منذ استقلال الأخيرة. وفي فترة لاحقة، امتد الصراع السوفياتي-الأميركي على النفوذ والنفط في الشرق الأوسط ليشمل سورية. ولم يساعد الدعم الهائل الأميركي لإسرائيل إلا في تعميق الصدع بين واشنطن ودمشق، خاصة وأنه أدى إلى هزيمة سورية في حرب يونيو (حزيران) 1967 وخسارتها لمرتفعات الجولان ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة.
وفي محاولة لتغيير مواقف دمشق، لجأت الإدارات الأميركية دائماً إلى أسلوب الضغط، الذي تجلى أخيراً بفرض عقوبات اقتصادية لم تكن الأولى من نوعها إذ كانت قد اعتمدت هذه الطريقة العام 1979 حين اتُّهمت دمشق بـ “دعم الإرهاب”، أي مساعدة المنظمات الفلسطينية التي كانت موجودة في سورية ولبنان. وتسببت تلك العقوبات الأميركية في تراجع الاقتصاد السوري تراجعاً كبيراً ودفعه نحو الانغلاق في محاولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، كما حملت النظام السياسي في سورية على السعي لتمتين روابطها مع الاتحاد السوفيتي أكبر أعداء أميركا حينها. والسيناريو الذي نشهده اليوم لا يختلف كثيراً عن ذاك الذي سبقه قبل أربعين عاماً ونيف!
تحسنت العلاقات مرحلياً في التسعينيات جرّاء مشاركة سورية في التحالف الذي شكلته الولايات المتحدة لتحرير الكويت إثر الاجتياح العراقي صيف العام 1990. لكن، لم يستطع الرئيس الأميركي بيل كلينتون استثمار هذا التحسن لتشجيع سورية على توقيع اتفاق مع إسرائيل رغم عملية السلام التي كانت جارية حينذاك. وما لبثت العلاقات أن عادت إلى سابق عهدها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر( أيلول) 2001، التي أحدثت تغييراً جذرياً في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
عارضت سورية عام 2003 في مجلس الأمن الحرب في العراق، ومنذ ذلك التاريخ وجدت نفسها في “محور الشر”. وتعرضت لضغط أميركي غير مسبوق، إذ فرضت إدارة بوش الابن عقوبات ضدها ولعبت دوراً مهماً في تمرير العديد من القرارات الدولية الهادفة إلى تغيير سلوك سورية في المنطقة، كان أبرزها قرار مجلس الأمن رقم 1559 القاضي بخروج “القوات الأجنبية” من لبنان. وفُرضت عزلة كبيرة عليها بعد اتهامها بتنفيذ عملية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري في فبراير (فبراير) 2005.
واستمرت هذه العزلة حتى 21 مايو (آيار) 2008 حين أُعلن عن إجراء مفاوضات غير مباشرة بين سورية وإسرائيل في تركيا. أثار ذلك المفاوضات حفيظة إيران وحذّر مستشار رفيع المستوى للمرشد الأعلى علي خامنئي دمشق من “عواقب “السلام” على علاقاتها مع طهران.
والحق لم يكن هذا الموضوع الخلافي الأول بين الدولتين “الحليفتين”، بل اختلفتا قبل ذلك حول التعاطي مع الملف العراقي بعد الغزو، فلم تكن سورية راضية عن الحكومة الطائفية التي أرادتها إيران في العراق؛ كما أن الجيش السوري لم يكن مرتاحاً للطريقة التي اكتسبت بها إيران موطئ قدم في جنوب لبنان. إلا أن فرض العزلة والضغط على سورية بعد اندلاع الأحداث فيها عام 2011، دفعها في كلّ مرة للتقارب مع إيران. ولولا الظرف الحرج الذي تعيشه منذ حوالي عشر سنوات لما كانت سورية التي عانت منذ ستينيات القرن الماضي من الإسلام السياسي، ومحاولاته فرض أجندات سياسية واجتماعية عليها، لتتحالف مع أقطابه في إيران، أو في تركيا سابقاً.
والسؤال الأهم هنا: لماذا يستمر الغرب في انتهاج السياسة الخارجية ذاتها على امتداد عقود تجاه سورية، متوقعاً نتائج مختلفة، علماً أن ثمة مبررات منطقية وعقلانية لتغيير مقاربته هذه؟ وعلى العكس مما يظن الكثيرون، ليس التحالف السوري الإيراني عصياً على الكسر، فهو أصلاً بلا أسس ولا مقومات تضمن له الاستمرار، وجاء فقط نتيجة أمر واقع فرضته ديناميات الأحداث في الشرق الأوسط.
لطالما صورت سورية نفسها على أنها عروبية حتى النخاع، في حين لا يُفرِّط الساسة الإيرانيون بفرصة للتلميح إلى أنهم دولة فارسية. ومن حيث نمط الحياة الاجتماعية والسياسية، تميل سورية حكومة وشعباً عموماً نحو العلمانية، بينما يحكم إيران نظام ثيوقراطي، يحمل راية الإسلام السياسي “الثوري”، ويعمل على نشر نسخته من الإسلام في محاولة لفرض هيمنة ثقافية على المنطقة يسعى لتحقيقها بلا كلل. ويمكن أن يضاف إلى الاختلافات بينهما أيضاً، عنصر آخر يتمثل في أن الغالبية العظمى من الإيرانيين هم من الشيعة، في حين أن معظم السوريين هم من السنة.
في هذا السياق، يجب تصحيح التصور المغلوط السائد بأن إيران هي موضع ترحيب في الداخل السوري. السوريون، حكماً، غير راضين عن وصف بلدهم بأنه “المحافظة 35 من المحافظات الإيرانية” أو بأنه لولا “طهران لسقطت دمشق” أو غيرها من التصريحات الاستفزازية التي يطلقها مسؤولون إيرانيون؛ والسوريون ليسوا مسرورين بالشروط المجحفة المتعلقة بخطوط الائتمان الإيرانية التي ما زالت ترهق اقتصادهم بتكلفتها الباهظة.
وعلى المستوى الرسمي، لا تزال النخب السورية منقسمة حول العلاقة مع إيران، التي يرى البعض أنها تحاول خلق حالة من الأمن الموازي، قد تتحول ربما إلى “دولة ضمن الدولة” كما هو الحال في لبنان. وعلى الصعيد العسكري تختلف طبيعة الجيش السوري العلمانية والمتعددة الأعراق كثيراً عن طبيعة القوات الإيرانية، التي تستخدم الأيديولوجيا الدينية لتحفيز كوادرها. يدافع الجيش السوري من منظوره عن دولة، في حين تحمي الميليشيات الإيرانية “عتبات مقدسة”، كلّ هذا يخلق حالة من انعدام ثقة متبادل يعاني التحالف بسببه من خلل بنيوي عمق يجعل ركائزه هشة آيلة للسقوط.
هذه العوامل وكثير غيرها تجعل من “التحالف السوري الإيراني” عبئاً على دمشق التي تدرك في الغالب مخاطر علاقتها بإيران على كلّ الصعد، السياسية والعسكرية والثقافية، ما يجعل من إبرام الصفقة معها أمراً ممكناً، بل ومرجحاً.
ينبغي أن يدرك الجميع أن عقد الصفقات في عالم السياسة يتطلب تنازلات من الأطراف كلها كما تقتضي مصالحها. ومع أن الملف السوري لايحظى الآن بالاهتمام الذي يستحقه، إلا أن هذا الحال لا يمكن أن يدوم. إن تأخير الصفقة يعني هدر الوقت وتعزيز الوجود العسكري الإيراني في مواقع متعددة في سورية، و ترك مستشاري طهران يمارسون تأثيراً أكبر في مفاصل الدولة السورية ، ناهيك عن استمرار أزمتها الاقتصادية الخانقة، وتدهور أحوال أبنائها وفقدانهم سبل عيشهم.
على صعيد مواز، سيوجّه كسر هذا التحالف ضربة قاصمة للمشروع الإيراني الرامي إلى الهيمنة على المنطقة، بل وربما للنظام الإيراني القائم حالياً نفسه. فتغيير سورية لتحالفاتها سيؤدي إلى قطع طريق إيران إلى حزب الله في لبنان تماماً، وتجريدها من أهم أداة لها في المنطقة، ولابد أن تصل ارتدادات تحول كهذا إلى القوى الفلسطينية المعرقلة للسلام والمليشيات الشيعية في العراق.
ختاماً، أجد من الضروري التأكيد على أن التعامل مع سورية يجب أن يختلف عن التعاطي مع إيران، فالأولى لا تملك مشروعا توسعياً في المنطقة، ولا يجب أن تعاقب على مناهضتها لإسرائيل التي تحتل أرضاً سورية، ولم تجد دمشق بعد أية طروحات عادلة تدفعها لخيار السلام. وينبغي أيضاً أن وضع حد لمعاقبة سورية بسبب وقوفها سابقاً في وجه الغزو الأميركي للعراق، فقد كانت تخشى الفوضى التي لا تقيم للحدود وزناً، وهذا ما حدث بالفعل، إذ انتقلت تلك الفوضى إليها حاملة معها واحداً من أخطر التنظيمات الإرهابية التي عرفها التاريخ البشري والمعروف باسم “داعش”.
بعد عشر سنوات من سفك الدماء في سورية، ومن الأخذ والرد في المعتركات الدبلوماسية لم يعد هنالك مخرج إلا من خلال صفقة كبرى، كي لا تدخل الأمور في نفق مظلم بلا نهاية ، فالتداعيات السلبية لوضع كهذا لن تقف عند حدود الشرق الأوسط. من الواضح أن دمشق اختارت هذا التقارب من طهران ليكون ورقة في يدها تلعبها وقت الضرورة كما تفعل حالياً. في المقابل، ينبغي بمن يريد بناء سلام حقيقي في المنطقة أن يعمل على إخراج سورية من أزمتها وعزلتها وإعادتها إلى محيطها ودورها، ففي النهاية وكما قال وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر” في الشرق الأوسط، لا يمكنك أن تصنع سلاماً دون سورية”. نقلا عن المصري اليوم