ما زال البعض متأثرا بالعثمانيين عبر السنوات التي مارست فيها الكتابة التاريخية ومنذ أول تناول لي بالنقد لفترة الاحتلال العثماني للأقطار العربية (كانت بداية تناولي لذلك في العام 2011) اعتدتُ تلقي الاعتراضات من المدافعين عن الدولة العثمانية ممن يختمون حديثهم عنها بـ أعادها الله وهم من أسميهم العثمانيين الجدد (أقلها اعتراضات موضوعية نقاشية رصينة وأغلبها سباب بعضه بذيء أو اتهام لي في ديني).
مع الوقت أصبح الأمر مملًا، هؤلاء القوم لهم نفس التعليقات النمطية المكررة التي تدور حول نفس الاعتراضات والدفاعات الهشة عن دولة آل عثمان… حتى أنني قد قررتُ أن أفرغها في شكل حوار افتراضي مع أحد هؤلاء العثمانيين الجدد…
فلنبدأ الحوار إذن..
-كل دولة لها إيجابيات وسلبيات فإذكر الإيجابيات كما تذكر السلبيات:
ج: هذا صحيح ولكن يوجد شيء اسمه السياق.. وسياق تناولي الحكم العثماني للبلدان العربية والإسلامية هو من منطلق انتمائي للمتضررين من ذلك الاحتلال الغاشم بالتالي فإن مطالبتي بعرض إيجابيات ذلك الاحتلال هي بنفس عبثية مطالبة عندي أو جزائري بذكر مزايا الاحتلالين البريطاني والفرنسي! الكاتب هنا يلعب دور محامي الادعاء ومن غير المعقول أن يُطالَب المدعي بذكر مزايا التهمة الموجهة للمدعَى عليه!
كان هذا الطلب-بذكر المزايا والإيجابيات أسوة بالعيوب والسلبيات-ليكون منطقيًا لو كان السياق هو تناول مجمل التاريخ العثماني ولكنه ليس كذلك.
-لاحظ أنك تتحدث عن دولة عظيمة حكمت لمدة 600 سنة فتحدث عنها بما يليق بها فيكفي لها طول عمرها:
حسنًا.. ما المطلوب مني إذن؟ المصريون القدماء استمرت حضارتهم آلاف السنين الرومان ثم البيزنطيين حكموا مصر والمشرق نحو سبعة قرون، الحضارة العربية الإسلامية عاشت نحو 800 سنة…
إذن؟ هل طول عمر دولة يمنع من نقدها وذكر عيوبها؟ الحقيقة أني لم أفهم قط وجه هذا الاعتراض..
-أنت تتحدث عن فترات ضعف الدولة العثمانية وهذا ظلم لها:
فلنرجع لواحد من أبرز كُتاب التاريخ الذين دافعوا عن الدولة العثمانية وهو رغم دفاعه عنها إلا أنه-والحق يقال-مؤرخ يتسم بالموضوعية والأمانة العلمية واختلافي معه لا يمنعني من الاعتراف بأنه قامة وقيمة.. أعني الأستاذ الدكتور محمد سهيل طقوش أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الإمام الأوزاعي ببيروت..
في كتابه العثمانيون من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة يقسم طقوش مراحل التاريخ العثماني إلى ثلاث مراحل رئيسية: مرحلة التأسيس وهي بين العامين 1299 و مرحلة التوسع والقوة وتغطي الفترة بين 1512 و1595 وأخيرًا مرحلة الضعف والانحلال وتغطي ما بين العام 1595م والعام 1924م الذي انهارت فيه الدولة.. تلك المرحلة-329 سنة-حكم الدولة خلالها 25 سلطانًا من واقع 37 حاكمًا عثمانيًا.. وهي تشمل أكتر من نصف عمر الدولة العثمانية كلها! نحن إذن نتحدث عن دولة بقيت تحتضر أكثر من نصف عمرها! (وهي ظاهرة تستحق الدراسة).
في العام 1595م الذي بدأت فيه تلك المرحلة كان قد مضى على حكم العثمانيون لمصر والشام نحو 78 عامًا فقط وأقل بالنسبة لأقطار أخرى كالعراق واليمن والجزيرة العربية.. أي أن هؤلاء العثمانيون هم أشبه بالغريق الذي تشبث ببلاد العرب وجذبها معه إلى القاع!
فهل المطلوب هو تجاهل كل تلك المرحلة والتركيز في تناولي للدولة العثمانية على ما يغطي أقل من نصف عمرها؟
-يكفي العثمانيون فضلًا أنهم قد حموا بلاد المسلمين من الاحتلال الأجنبي:
هذه من أكثر الاعتراضات التي أتلقاها مغالطة وعبثية.. لماذا؟ دعنا نرى..
هذه قائمة بالانتهاكات التي يمكن أن يمارس المحتل الأجنبي بعضها أو كلها بحقك:
ينهب ثرواتك يذل قومك لا يحترم حرمة الدم والنساء يعبث بهويتك، يستنزف طاقاتك يشغل ويجند رجالك بالسخرة، ينشر في بلادك الجهل والفقر والمرض، يقمع آراءك..
ما الذي فعله العثمانيون ببلادنا؟ حسنًا إنه كل ما سبق!
ما السبب إذن الذي يجعلك تنتظر مني ألا أنظر لهم باعتبارهم احتلالًا أجنبيًا؟ أم أنك لا مشكلة عندك مع كل الانتهاكات السابقة إلا لو كان مرتكبها يعتنق دين آخر غير الإسلام؟ هل لو هاجمك قاطع طريق ثم اكتشفت أنه مسلم ستمتنع عن رده باعتبار أنه ليس غريبًا؟! ماذا لو حاول اغتصاب امرأتك أو احتلال دارك؟ هل كونه ينطق نفس الشهادتين يمثل لك مبررًا للتفرقة بينه وبين آخر لا يختلف عنه سوى في الدين؟! أي منطق هذا؟!
ثم أن ثمة شِق آخر عبثي من هذا الاعتراض، هو حموا البلاد من الاحتلال من إذن الذي ضاعت منه مصر وتونس والجزائر والشام والعراق لصالح المستعمر الأوروبي؟ طبعًا لا نعدم من يقول كان هذا في فترات الضعف.. سبحان الله.. وهل سمعنا عن دولة فقدت بعض البلدان لصالح المستعمر وهي في أوج قوتها؟!
العالم كله كان يحارب العثمانيين:
ج: هذا على أساس أن الفُرس والروم والفرنجة والمغول وغيرهم كانوا يرسلون باقات الورود للمسلمين الأوائل والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والسلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك؟! ما بالك وأن العثمانيون أصلًا يقدمون أنفسهم للعالم باعتبارهم محاربين ويتلقب سلطانهم بـ السلطان الغازي؟
نحو 11 عامًا منذ بدأتُ في ممارسة الكتابة التاريخية ولم تخرج اعتراضات العثمانيون الجدد عن تلك السالفة الذكر.. وهو أمر يؤكد وجهة النظر أنهم يحفظون ولا يفهمون. ومن المؤكد أنني لست أول من رد على تلك الاعتراضات والتعليقات لكنهم لا ينفكون يكررونها بإصرار ممل ينم عن حالة الخواء الفكري والمعرفي التي تميز هؤلاء وتجعلهم مطية سهلة لمن يحركونهم ويمنونهم ب إعادة مجد الخلافة العثمانية أعادها الله