بعد خروجي من الخدمة العسكرية، وتركي للمهام الرسمية، صار يوم الجمعة، من كل أسبوع، أهم، وأسعد، أيام حياتي؛ إذ سنح لي الفرصة للاستمتاع بتجمع الأسرة كلها، أبناءً وأحفاداً، والاستماع لنوادرهم، ومشاركتهم بعض من تفاصيل حياتهم، ومساعدتهم في اتخاذ القرارات الهامة، مثلما حدث منذ عدة سنوات، عندما تباحثنا حول سفر حفيدتي الكبرى إلى ألمانيا للدراسة، وهي الحفيدة ذات السبعة عشر عاماً، التي ستسافر وحدها إلى عالم جديد، مجهول، إلا أن مصلحتها اقتضت الموافقة على سفرها، رغم مرارة بعدها عنا.
وفي الأسبوع الماضي، ومع الالتزام بالإجراءات الاحترازية ضد فيروس كورونا، اقترحت ابنتي الصغرى أن نجتمع على الغذاء في أحد الأماكن المفتوحة في مدينة 6 أكتوبر، وتحديداً في مطعم سوري، لعلمها بأنني من هواة هذا المطبخ المتميز، ذو الطابع المحبب لنا جميعاً، وبالفعل توجهنا إليه واستمتعنا بأطباقه الشهية وأهمها المقبلات السورية. وما أن انتهينا من تناول الغذاء، حتى تقدم إلي صاحب المطعم، السوري الجنسية، وعرفني بنفسه، وطلب مني أن نتحدث سوياً لدقائق قليلة، فلم أتردد، بالطبع، والحقيقة أنني لم أتكلم، بل استمعت إلى حديثه، الذي بدأه بقوله، “أنا عندي رسالة أتمنى أن تساعدني في إيصالها إلى مستحقيها”.
واستطرد صاحب المطعم “اللي قال إن مصر أم الدنيا لم يخطئ أبداً … ده قول صحيح مائة بالمائة … لقد حضرنا إلى مصر بعد تردي الأوضاع في سوريا، آملين ألا يطول بنا الأمد خارج بلادنا. وهو ما ظنه كل من غادر مختلف المدن السورية هرباً من القتال وقصف الطيران والمدفعية، بعدما تهدمت المنازل، وانقطعت الخدمات سواء المدارس أو المياه أو الكهرباء، واستحالت الحياة على أرض بلادنا الحبيبة”. وتابع الرجل “منا من اندفع من شمال سوريا نحو تركيا، فانتهى بهم الحال، وعددهم 2 مليون سوري، في معسكرات اللاجئين، في المنطقة الحدودية، يعيشون في أسوأ ظروف يمكن أن يتخيلها إنسان، رغم ما يوفره الاتحاد الأوروبي لتركيا من مساعدات لتمويل إقامة السوريين، خوفاً من تدفقهم إلى أوروبا، بالطبع. ومع ذلك، فإن أي محاولة سورية للقيام بعمل تجاري، يجابه بكل أعمال العنف والبطش التركي”.
استكمل الرجل حديثه قائلاً، “أما من تمكن منا من الوصول إلى أوروبا، فلا يضاهيه في سوء معيشته إلا الموجودين منا على الحدود التركية، فكلهم محشورين في معسكرات، لا حياة فيها”، ودلل الرجل على ذلك بواقعة احتراق أحد معسكرات اللاجئين السوريين في اليونان، منذ أسابيع، التي انتهت باندفاع اللاجئين السوريين إلى الشوارع بلا مأوي، بينما الجيش اليوناني يطاردهم. أما من فروا إلى لبنان، لقرب المسافة بينها وبين سوريا، فإما يعيشون في معسكرات لاجئين، أو يعيشون تحت خط الفقر، ويعملون بأجور زهيدة للغاية، لا تكفي لسد الرمق، بينما رجال الأعمال السوريون، الذين قرروا نقل أموالهم إلى لبنان، كانت خسارتهم فادحة، بعد تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية والسياسية التي ألمت بلبنان الشقيقة، ولا يعلم مداها، اليوم، إلى الله.
لم أقاطع الرجل، بينما هو مستطرد في حديثه يقول “أما من راهن على مصر فقد ربح … فمنذ وصولنا إلى الحبيبة مصر، لم نشعر، يوماً، بغربة … لقد أحن أهل مصر استقبالنا، ولم تتاجر قيادتها بقضيتنا، لقد تقاسمنا معكم العيش، والتحق أبناءنا بمدارسكم وجامعتكم، ولما طالت إقامتنا، وبدأنا في أعمالنا التجارية، لم نسمع من مصري من يقول أننا نزاحمهم في أرزقهم، بل انضم إلينا العديد من الشباب المصري، حتى توسعت أعمالنا معاً، يداً بيد، وأموالنا محفوظة، لا قيود عليها … فلما ننظر إلى حالنا، وحال أخواتنا الذين تشتتوا في البلاد، شرقاً وغرباً، نبكي على حالهم متمنين لو أنهم اختاروا مصر”.
تابع الأخ السوري حديثه قائلاً “آخر ما أريد قوله … شكراً لكل المصريين … لابد وأنكم فخورين بانتمائكم لأم الدنيا، التي احتضنتنا، كما احتضنت من سبقنا إليها من الأخوة الليبيين والأخوة العراقيين، ولازالت تفتح ذراعيها لنا بلا كلل أو ملل. ورسالتي لكم في مصر حافظوا على بلدكم؛ فالعرب من غير مصر ولا حاجة … أنتم القوة الحقيقية، الوحيدة، التي يستند إليها العرب … خافوا على بلادكم، ولكم فينا وفي جيرانكم عبرة وعظة … فالكل متربص بكم ولا يريدون لكم خيراً، وعلى رأسهم مثلث الشر قطر وتركيا وإيران، إلا أن تكاتفكم، ووحدتكم، والتحامكم بجيشكم القوي العظيم، هو حائط الصد القادر على درء كيدهم … إن الأمان الذي تعيشون فيه نعمة غالية، لا يشعر بها إلا من ذاق مرارة التهجير، وفقد البيت والوطن” … وهنا انتهي الحوار.