لقد ظل الشعر بعد وفاة رفاعة رافع الطهطاوي فى مصر خاليا من المعانى الوطنية إلى أن تجددت في شعر عبدالله النديم
هو خطيب الثورة العرابية وشاعرها انطبعت في خطبه وقصائده روح الوطنية المتدفقة وروح الثورة
مولده ولد بالأسكندرية ١٨٤٥ وغلب منذ صباه الذكاء اللامع ومواهبه في اسلهام الكتابة والشعر والزجل والقدرة على الخطابة وخفة الروح والميل إلى الفكاهة والجرأة والإقدام واستخفاف بٱحداث الزمان
ولما ظهرت الثورة العرابية كان من أوائل من
انضم إليها بطبعه إذ كانت نفسه تتأجج وطنية وتطلع إلى الحرية الرفعة وتجلت موهبة الخطابية فصار خطيب الثورة العرابية
ووقف خطيبا ليودع الاميرلاى عبدالعال حلمى فى محطة العاصمة قائلاً
إليكم يرد الأمر وهو عظيم
فإنى بكم طول الزمان رحيم
إذا لم تكونوا الخطوب وللردى
فمن أين يأتي للديار نعيم
وإن الفتى إن لم يتنازل زمانه
تأخر عنه صاحب وحميم
فردوا عنان الخيل نحو مخيم
وقلبه بين البيوت نسيم
وشدوا له الأطراف من كل وجهة
فمشدود أطراف الجهات قويم
إذا لم تكن سيفا فكن أرض وطأة
فليس لمغلول اليدين حريم
وختم خطبته بقوله ( وأحسن ما يؤرخ به اسم الجهادية عند النوازل أن يقال ….مات شهيد الأوطان)
فنادى الجميع ( رضينا بالموت في حفظ الأوطان)
ولما شبت الحرب العرابية صاحب الزعيم عرابي بكفر الدوار ثم إلى التل الكبير بالإسماعيليه وكانت مجلته (الطائف) تصدر في الجيش المصري
وبعد هزيمة العراقيين ظل عبدالله النديم مخلصاً للثورة في محنتها فبرهن على وفاء نادر ووطنية أصيلة عميقة وكان ممن أمرت الحكومة باعتقالهم وعجزت عن التعرف على مقره والقبض عليه وظل مختفيا عن عيونها وجواسيسها نحو تسعة أعوام وأعيا الحكومة أمره وخصصت ألف جنيه لمن يرشد عنه ولكنها لم تهتد إليه
وقد وصف ما لقيه من الشدائد أثناء اختفائه في قصيدة تفيض بالوطنية والإيمان والفخر والشجاعة وهى من غرر قصائده يقول
أتحسبنا إذا قلنا بلينا
بلينا أو يرون القلب لينا
نعم للمجد نقتحم الظواهر
فبحسب خامل أنا دهينا
تناوشنا فتقهرنا خطوب
ترى ليث العرين لها قرينا
سواء حربها والسلم أنا
أناس قبل هدنتها هدينا
إلى أن قال
إذا ما الدهر صافانا مرضنا
فإن عدنا إلى خطب شفينا
لنا جلد على جلد يقينا
فإن زاد البلا زدنا يقينا
ألفنا كل مكروه تفدى
له فرسانها بالراجلينا
فأعيا الخطب ما يلقاه منا
ولكنا صحاح ما علينا
سلينا ياخكوب فقد عرفنا
بأنا الصلب صلنا أو صلينا
وقال يصف إحاطة الجند بالمنزل الذى كان فيه يريدون اعتقاله فنجاه الله من شرهم :
أأنسي يوم مصر والبلايا
تطاردنى ولا ألقى معينا
فكنت الغوث في يوم كريه
أخاف الشهم والحبر السمينا
مدحنا فيه فى إشراق شمس
فلما جاء مغريه هجينا
وهل أنسى هجوم الجند عمرا
بلا علم وقد كنا فجينا
أحاطوا بى وشدوا كل باب
وصرنا بين أيدى الباحثينا
وكان السطح مملوءا بجند
وخلف البيت كم وضعوا كمينا
فأدركت الوحيد وكان صيدا
قريباً من فخاخ الطالبينا
وأرشدت النديم إلى مكان
رآه بعد حيرته كمينا
واعمى الله عنا كل عين
وكنا العساكر ناظرينا
وصرنا فوق سطح فيه علو
يحطم هاويا منه متينا
فلم أرهب وثوبى من طمار
ولم أنظر شمالاً أو يمينا
ويوم الغيظ كنت لنا مجبرا
بسكوته من البلوى حنينا
فقد كنا بلا ستر يرانا
أمام العين كل القاصدينا
وكم سرنا بلا خوف جهارا
ركبنا الخيل أو جئنا السفينا
وإنى الآن في خطب عظيم
أرى في كليه داء دفينا
أتانا مخبر عن قوم سوء
أرادوا وصفنا للحاكم ندمينا
وخاف الضر أحبابى جميعا
وقالوا لي بالوشاية قد رمينا
فعجل بالرحيل بلا توان
والاخير صديقا أو خدينا
فأدرك يا أبى نجلا دعاه
من الأهوال ما يوهى البدينات
فما خفت من المنون ولا الأعادى
نعم خفت انشراح الشامتينا
فيقول
فسرت الليل يصخبنى ثبات
لها نحو منزله دعينا
ورافقنى خليل كان في بلا
يوافى حين كنا ظاهرينا
وأدركنا القطار بغير خوف
وكنا بالثياب منكرينا
وألقى الله ستر الحفظ فضلا
فلم ترنا عيون المبلسينا
وكان الخيل منتظراً قدومى
بخيل أوصلتنا سالمينا
ونجى الله بعد اليأس عبدا
يرى الرحمن خير المنقذينا
ونرى هذا الشعر أقوى في الروح والأسلوب من شعره في إبان الثورة ويتضح أن الهزيمة لم تنل منه بل زادته قوة وحيوية وصلابة وبلاغة وأن الشدائد صقلت مواهبه كما تصقل المعادن وتجلى جواهرها لهب النار فكان الإيمان والعزم الصادق والشدائد والمحن زادته ثباتا وصمودا وفي حقيقة الأمر أن النديم هو الزعيم العرابي الوحيد الذى صمد في جهاده ضد الإنجليز ونضاله عن مصر ضد الاحتلال وهذا يحيط اسمه هالة من النور والمجد والخلود و
وقد أعادته الحكومة إلى مكانه سنة١٨٩١ونفته إلى خارج البلاد وفي أول عهد الخديوي عباس حلمي الثاني عفا عنه ورخص له بالعودة إلى مصر وأنشأ مجلة (الأستاذ) ١٨٩٢ فتفحت فيها روحه الوطنية التي لم تضعفها الهزيمة فظل مناضلا مما جعل اللورد كرومر يأمر بإبعاده عن البلاد ثانية فاضطر إلى تعطيل صحيفته ١٨٩٣ وودع قراءه وداعا مؤثرا في آخر عدد صدر منها في يونيو ١٨٩٣ قال
ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال ومصادمة النوائب والعافية يتلذذ بما يراه في فضول تاريخه من العظمة والجلال وإن كان المبدأ صعوبة وكدرا في أعين الواقفين عند الظواهر وعلى هذا فإنى أودع إخوانى قائلاً
أودعكم والله يعلم أننى
أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلى كان الرحيل وإنما
دواعي تبدأ فالسلام عليكم
وانتهى به المطاف في منفاه إلى الأستانة حيث توفى سنة ١٨٩٦ وشيعت جنازته في احتفال مهيب مشى فيه كثير من العلماء والأدباء والكبراء يتقدمهم السيد جمال الدين الأفغاني ودفن هناك