يبدو أن الرياح تأتى بما لا تشتهى السفن.. هكذا جاء المثل هذه الأيام على تركيا وأردوغان، فالأحداث المتلاحقة بدأت تضع تركيا فى مأزق كبير، حيث ظهرت المشكلة الأولى بعد قيام تركيا بإرسال سفينة التنقيب عن الغاز الطبيعى أمام السواحل اليونانية، وهو ما اعتبرته اليونان انتهاكًا لحقوق مياهها الإقليمية والاقتصادية، كذلك بدأت قبرص فى تقديم شكواها إلى الاتحاد الأوروبى بسبب تحرش تركيا أيضًا بمياهها الاقتصادية والإقليمية، وهنا ظهر غضب الاتحاد الأوروبى، الذى أعلن تضامنه مع اليونان وقبرص، لذلك سوف يناقش الاتحاد الأوروبى، هذا الأسبوع، مسألة فرض عقوبات على تركيا ردًا على إرسالها سفن تنقيب وسفنًا حربية إلى منطقة شرق «المتوسط».
أما فرنسا فلقد أعلنت عن بيع 6 طائرات رافال F3 جديدة و12 طائرة مستعملة لدعم اليونان عسكريًا لمواجهة مخططات تركيا فى شرق «المتوسط»، وهكذا جاء تدعيم فرنسا لليونان عسكريًا لكى يضعها فى موقف متميز عسكريًا، خاصةً بعد الفيتو، الذى أصدره الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لمنع تركيا من الحصول على طائرات f35، بعد توقيع تركيا صفقة شراء منظومة الدفاع الجوى الروسية S400، كذلك أصدر الرئيس ترامب رفع حظر توريد السلاح إلى قبرص، والذى كان قد فُرض عليها منذ فترة، لذلك صعّد الرئيس التركى رجب طيب أردوغان اللهجة تجاه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، واصفًا إياه بـ«عديم الكفاءة»، ورأى أردوغان أن الاتحاد الأوروبى يتعامل بمعايير مزدوجة مع أنقرة منذ مدة طويلة، كذلك هاجم وزير الدفاع التركى، خلوصى أكار، الرئيس ماكرون، قائلًا إنه يصب الزيت على نار المشاكل فى منطقة شرق «المتوسط»، وأمام كل هذه الضغوط اضطر أردوغان إلى سحب سفينة الأبحاث التركية التى كانت تنقب عن الغاز الطبيعى أمام السواحل اليونانية إلى ميناء أنطاليا، تحت حجة قيامها بأعمال الصيانة الدورية، تحسبًا لقيام الاتحاد الأوروبى بفرض عقوبات اقتصادية، هذا الأسبوع، على تركيا.
.. ثم جاءت الضربة الثانية لأردوغان عندما قرر حليفه فى طرابلس، رئيس الوزراء لحكومة الوفاق، فايز السراج، أنه سيتقدم باستقالته وتسليم المهام فى أكتوبر المقبل، لذلك أعلن الرئيس التركى أردوغان أن أنباء استقالة «السراج» مزعجة للغاية، وقال إن تركيا ساعدت «السراج» لكى يستعيد موقفه العسكرى، بعد أن كاد «حفتر» بقواته يدخل إلى طرابلس، وبالطبع جاءت هذه الضربة لأردوغان فى مقتل، حيث تعنى إلغاء الاتفاق الأمنى التركى الليبى برحيل «السراج»، خاصة بعد قبوله وقف إطلاق النار على كل الأراضى الليبية، ولم يكن هذا القرار على هوى أنقرة وأردوغان، الذى بدأ يشعر بأن ضغوط اللعبة فى طرابلس بدأت تفلت من أيدى أنقرة.
كذلك جاءت الضربة القوية الأخرى لأنقرة بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، الأمر الذى أفقد تركيا أى أمل فى التنقيب على الغاز الطبيعى فى شرق «المتوسط»، من ذلك كله جاءت المفاجأة بطلب أردوغان أن يتم التباحث مع جهات الأمن المصرية بهدف تنسيق الجهود فى منطقة شرق «المتوسط»، وذلك بعد الانكسارات التى تلقتها تركيا من الاتحاد الأوروبى واستقالة «السراج»، فلم يجد أمامه إلا أن يحاول إعادة العلاقات مع مصر، ولكن جاء الرد المصرى من خلال المتحدث باسم وزارة الخارجية، حيث استنكرت مصر تصريحات وزير الخارجية التركى مع قناة CNN TURK، التى تضمنت، من بين إشارات مختلفة، تناولًا سلبيًا حول ما شهدته مصر من تطورات سياسية اتصالًا بثورة 30 يونيو، بما يؤكد استمرار التشبث بادعاءات منافية تمامًا للواقع بهدف خدمة توجهات أيديولوجية، وأكد المتحدث الرسمى لوزارة الخارجية المصرية الرفض الكامل لهذا المنهج، منوهًا بأن الاستمرار عن الحديث عن مصر بهذه النبرة السلبية، وفى نفس الوقت، بهذا القدر من التناقض، إنما يكرس افتقاد المصداقية إزاء أى ادعاء بالسعى لتهيئة المناخ المناسب لعلاقات قائمة على الاحترام والالتزام بقواعد الشرعية الدولية، وتشير التقارير إلى أن تركيا تهدف من إعادة التقارب مع مصر إلى أولًا: تهدئة المعارضة التركية، التى ترى أن أردوغان أخطأ باتخاذ هذه الإجراءات المعادية لمصر، وهى أقوى دول المنطقة، كذلك ترى التقارير المختلفة أن تركيا تهدف من هذا التقارب مع مصر إلى محاولة إعادة ترسيم حدود بحرية جديدة بين مصر وتركيا لضرب ترسيم الحدود البحرية التى أقامتها مصر مع اليونان، والتى قضت على آمال تركيا فى أن تتواجد فى منطقة شرق «المتوسط».
وعلى الجانب الآخر، هناك مَن يرى أن مصر ترى أن احتضان تركيا للإخوان المسلمين وتدعيمهم فى تركيا، كذلك دعم القنوات الإعلامية الإخوانية المعادية لمصر أمر لا يُنظر إليه إلا على أنه اتجاه عدائى لمصر فى تلك الظروف، ويأتى الملف الثالث، وهو التدخل التركى فى شؤون دول الجوار لمصر، ويُقصد به التدخل فى شؤون ليبيا، الأمر الذى يحقق عدم الاستقرار والتهديد المباشر للأمن القومى المصرى فى اتجاهه الاستراتيجى الشمالى الغربى، ورغم ادعاء تركيا أن أى مفاوضات مع عناصر الأمن فى مصر تهدف إلى تحقيق مطالب الطرفين بعيدًا عن السياسة، فهو أمر مغالط به لأن تركيا حالياً فقدت كل حلفائها فى المنطقة، وأصبحت مصدرًا للتهديد الأمنى فى شرق «المتوسط»، ومن هنا أصبح أردوغان وحيدًا فى المنطقة نتيجة سياسته الانفرادية، التى أصبحت مثارًا لنقد الجميع، بدءًا من الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية حتى الاتحاد السوفيتى، وأخيرًا مصر، التى رفضت أى مؤشرات للتقارب إلا بعد أن تعدل تركيا من سياستها تجاه مصر وأمنها القومى وتُبدى المعاونة فى تحقيق الاستقرار فى منطقة شرق «المتوسط»، وهكذا فإننا نرى أن أردوغان وتركيا حاليًا فى مأزق شديد.