متابعة / محمد مختار حدوتتنا اليوم عن ظاهرة “التسول” فى مدينة الغردقة.
رغم أن ظاهرة التسول قديمة قدم المجتمع الإنسانى إلا أن محافظة البحر الأحمر لم تعرف التسول ولم ترى “الشحاتين” إلا فى أوئل التسعينات بعد دخول السياحة وأنتشار المشروعات السياحية على سواحل المحافظة وأصبحت مدنها مناطق جذب، فحدث هجوم مفاجىء على مدن المحافظة وخاصة مدينة الغردقة
من هؤلاء الذين يمتهنون التسول قادمين من إحدى محافظات الصعيد، وأمتلأت بهم الشوارع وأطلق عليهم أهل الغردقة حين ذاك إسم “الحلب”، بدأ هؤلاء نشاطهم بالطرق التقليدية لهذه المهنة إن صح التعبير، كانوا يطرقون أبواب البيوت ويطلبون المساعدات العينية (قليل من السكر أوالزيت أوالبصل أو خبز … وغيرة)، ثم تشكلت مجموعات من الأطفال واتجهت إلى مد اليد وطلب النقود فى الشوارع وكان التركيذ على أماكن تواجد السياح فى الشوارع الرئيسية وحول
البازارات، وقامت النساء بإحتلال الميادين والنواصى المزدحمة حاملين على أكتافهن الأطفال الرضع، وبعد قيام الحرب فى سوريا وقدوم بعض اللاجئين السوريين إلى مصر إستغل هؤلاء الأزمة ولجأت بعض
فتيات الحلب إلى لبس الخمار وتقليد اللهجة الشامية والحديث مع المارة على أنهم لاجئون ويحتاجون مساعدة.
التسول أوطلب المساعدات قديما كان للحاجة والضرورة الملحة فقط، والغرض منة الحصول على مايسد الرمق والإحتياج للكساء والغطاء، أو فى الظروف الطارئة التى تحل على الشخص عند ضياع أموالة فى الغربة مثلا وينتهى تسولة فور قضاء
حاجتة، وتعددت أسباب ودوافع التسول إلى الحالة الاقتصادية المتدنية للأسرة والجهل والبطالة وسوء التربية واللجوء إلى الشارع هربا من الخلافات الأسرية، ولكن أصبحت مهنة تدر دخلا خياليا بمجهود قليل لايكون المتسول مضطرا لشيء سوى رغبتة فى كسب المال، وتطورت طرق التسول عبر العصور فبدأت بما
يسمى التسول “الظاهر” الذى يطلب فية المتسول المال وهو يرتدى الملابس الرثة والمهلهلة والممزقة مع إظهار عاهة معينة مع ترديد الدعاء وعبارات تستثير عاطفة الناس، وللأسف يتعاطف الكثير مع هؤلاء الممثلين المتصنعين مدعيين الفقر والحاجة، ثم تحولت هذه الظاهرة إلى التسول “المقنع” والتستر خلف
خدمات رمزية يقدمها للناس مثل بيع المناديل الورقية وأعواد البخور أو مسح زجاج السيارات فى إشارات المرور حتى يكونوا بعيدين عن قبضة الشرطة والوقوع تحت طائلة القانون، وذكرت دراسة أن القاهرة يوجد
بها أكثر من 50 ألف متسول نصفهم من الأطفال يعملون تحت قيادة عصابات ومافيا تديرهم من خلف الستار وتوفر لهم الغطاء والحماية، ويقدر دخل هذا البيزنس (بمليار جنيه) في الشهرالواحد. وتعددت الحكايات عن ثروة هؤلاء المتسولين حيث
كشف إمام مسجد السيدة زينب بالقاهرة، أنة عند زيارة أحد موظفي بنك أجنبي شهير للمسجد رأى أحد المتسولين فعرفة، وأخبر الإمام أنه عميل لدى البنك ورصيده حوالي (2مليون جنيه)، كما إنتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي قصة أشهر متسول في بني
سويف “كامل بيه” الذى يرتدي جلبابا قديما وكان دائم التردد على البنك الأهلي فرع بني سويف، حينها نشر أحد موظفي البنك أن هذا الرجل العجوز يمتلك أكثر من (ثلاثة ملايين جنيه) رصيد فى البنك، بالإضافة إلى
عمارتين بمنطقة الهرم وفيصل بمحافظة الجيزة، وهناك حكايات على لسان أصحابها مثل الجامعي الذى يبلغ من العمر 34 سنة من المطرية وعاطل، قال إنه يعمل كمتسول من الساعة 8 مساءً وحتى 2 صباحا، لافتا أنة جاء ذلك بعد فشله في إيجاد فرصة عمل مناسبة،
يستطيع من خلالها أن يصرف على أسرته المكونة من زوجة و 3 أطفال بجانب الأم والأب، الأمر الذي دفعه ليفكر في الانتحار لولا أن أحد أصدقائه جامعي أيضا نصحه بأن ينضم للتسول من خلال ارتداء ملابس رثة
والنزول في الشوارع ليلا للتسول من خلال عصابة يديرها 3 أشخاص في محافظة الجيزة، واقتنع بكلام صديقه وكان اتفاقهم معه (أن يشتري الزي الخاص بشركة القمامة ويرتديه، ويشتري مقشة كبيرة وجوال يجمع فيه القمامة، ويقوم بكنس أجزاء من شارع
جامعة الدولة العربية بطول 100 متر)، وبالفعل قام بالعمل وكان يجمع مابين 1000 و5000 جنيه في اليوم الواحد وتحصل العصابة منه على 25% ، وفي كل مرة يشعر بوجود الشرطة يباشر الكنس في الشارع حتى لا يعتقد أحد أنه يتسول، وأشار إلى أنه سدد كل
ديونه واشترى شقة بعيدا عن سكن والده ووالدته في مدة لم تتجاوز العام، ويؤكد أن هناك المئات مثله في شارع جامعة الدول العربية بواقع شخص واحد كل 100 متر، وفي حال دخول متسول إلى المنطقة دون إذن العصابة يتم ضربه وطرده وإذا لم يرحل تلفق لة قضية سرقة.
هناك جرائم كثيرة إرتبطت بهذه الظاهرة حيث غطاء التسول يسهل إرتكاب بعض الأفعال الأجرامية مثل سرقة الأطفال الرضع لإستغلالهم فى إستجداء المارة وتقوم المرأة بتخديره حتى تستطيع السيطرة عليه ويظل نائما طول الوقت، وأيضا إستأجار الأطفال فى
سن دون العاشرة مع دفع مقابل مادى لأسرة الطفل بعد أن يتم عمل عاهات مصطنعة لهؤلاء الأطفال، ومن الجرائم أيضا البلطجة والسرقة وخطف السلاسل، وبحكم تواجدهم شبة الدائم فى الشوارع يستغلهم
التجار فى توزيع البرشام والمخدرات والبودرة وغيرها، فعلى الإنسان أن يتحقق من ظروف من يعطيهم صدقاته أو زكاة ماله، ويبتعد عن هؤلاء الممتهنين للتسول المستغلين طيبة الناس وتعاطفهم، فهناك أرامل
وأيتام فى أشد الحاجة تحجبهم الجدران يحسبهم الناس أغنياء من التعفف لايسألون الناس إلحافا. فالتسول ظاهرة قبيحة تسيء إلى سمعة المجتمع وتشوه صورتة وتعكر صفوه، ويظهر فيها المتسول بصورة الذليل فاقد الكرامة والإحترام، ونقصد هنا
ماحرمة ديننا الحنيف وهو من يسأل الناس بغير حاجة أو أنة يملك قوت يومه، وحرص الإسلام على حفظ كرامة الإنسان، وصون نفسه عن الابتذال والتعرض للإهانة والوقوف مواقف الذل والهوان، فحذر من
التعرض للتسول الذي يتنافى مع الكرامة الإنسانية التي خصها الله تعالى للإنسان، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) الإسراء، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ
فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ)، وقال: (لَوْ يَعْلَمُ صَاحِبُ الْمَسْأَلَةِ مَا فِيهَا مَا سَأَلَ)، كما حث الإسلام على العمل وهو مقصد العمارة في الأرض، كما عالج هذه الظاهرة في قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ
حبلهُ، ثم يأتي الجبل فَيَأْتِيَ بِحُزْمَة من حَطَب عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَه خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ)، لذلك الأنبياء جميعًا كانوا يأكلون من صنعة يدهم، ولقد ضمِن الله تعالى للكائنات جميعا رزقها،حيث قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، كما قال سبحانة: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ* فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)، فالمحترف لهذه المهنة القبيحة يأكل أموال الناس بالباطل، ويطعم أولادة وأسرتة سحتا ومالا حراماً وما نبت من حرام فالنار أولى بة.
نرجع إلى مجتمع ما يسمى “بالحلب” الذى إستوطن مدينة الغردقة مؤخرا، ونتعرف على بعض عاداتة وتقاليدة الغريبة، فالرجل عندهم لايعمل تسرح النساء والأطفال للتسول ويظل هو نائم فى البيت طوال النهار، وعند عودتهم يكون قد إستيقظ فيستولى على
الحصيلة النقدية، ثم يتفقد الحصيلة العينية التى تشمل وجبات الطعام الشهى والحلويات والعصائر وغيرة فيتناول منها ما يروق لة، ولا تنسى الزوجة ان تحضر معها طلباتة الخاصة من (السجائر أو المعسل) ولزوم المزاج (كحليات أو أقراص مخدرة أو حشيش ..
أو كلهم مجتمعين) حتى يبدأ يومة هذا “الغضنفر” شبية الرجال مع دخول المساء والسهر حتى الصباح، لذلك تكلفة “المهور” عند الحلب عالية جدا يدفعها ا
لزوج بكل رضا وأريحية، لأنة تزوج من (الفرخة التى تبيض لة ذهب)، وستعوضة أضعاف أضعاف ما دفعة بل ستكون فى المستقبل هى المصدر الأساسى للدخل نتيجة عملها فى التسول.
وعن هذا المجتمع الغريب فقد حكى صديق لى عن موقف شاهدة بعينة، قال عندما كنت فى طريق عودتى إلى المنزل رأيت إحدى السيدات ومعها مجموعة من الشباب والبنات والأطفال يمسكون بشابا فى مقتبل
العمر من ثيابة ويجرونة بعيدا عن موقع عملة حيث كان يقوم بمساعدة مبيض محارة ويجهيز لة المونة، يقول صديقى عرفت قبل أن أتدخل أن هذه السيدة هى أمة، وكانت تنهرة بصوت عال وتوبخة على قيامة بهذا
العمل، واستطرق صديقى قائلا من ضمن العبارات التى كانت تكيل بها هذه المرأة لإبنها (جبت لنا العار … الناس تقول علينا أية؟)، ولا أدرى هنا هل كان الإعتراض لمجرد أنة يعمل؟ أم الإعتراض على عملة
خارج منظومة التسول؟، وفى كلتا الحالتين جعلنى هذا التصرف الغريب فى غاية الذهول، وهذا يوضح أن من ثقافة هذه الفئة من المجتمع أن العمل للمرأة وليس
للرجل، وإن كان ولابد فيجب ألا يكون خارج إطار مهنة “الشحاتة” وما شابهها مثل (البخور – تلميع الأحزية)، وإلا يكن بذلك قد خالف التقاليد وجلب العار لأهلة كما جاء على لسان هذه السيدة.
سكنت عائلات الحلب فى الأحياء القديمة بالغردقة واختلطت مع السكان المحليين، مما نتج عنة أمور خطيرة نالت من ثقافة المجتمع المحلى الغردقاوى وأفقدت بعض أفرادة الثوابت الموروثة، وأكسبتة بعض السلوك الغير سوية والتصرفات المعيبة، وللأسف
حدث تبادل لهذه العادات مع المجتمع المحلى وطبعا الطرف الخاسر معروف، ومن نتائج هذا الإختلاط حكاية حدثت بالفعل وهى أن أحد سكان الغردقة سكنت بجوارة عائلة من فئة الحلب، وبعد فترة لاحظ
أن إبنة الصغير يقضى قترات طويلة خارج البيت ويعود فى وقت متأخر من الليل، فأخذ يراقبة حتى تبين لة أنة كان “يسرح” مع أقرانة من الحلب للتسول وكانت هذه نتيجة طبيعية لإختلاط إبنة مع هؤلاء الأطفال واللعب معهم طوال الوقت بحكم الجوار، مما
أثار هذا الحدث حفيظة شباب (حى العرب) وجعلة ينتفض ضد هذا السرطان الذى إنتشر على أطراف الحى، وقاموا بحملة تطهير وطرد لكل هذه العائلات وإجبارها على ترك المنازل التى إستأجروها فى الحى، فرحل الكثير وعاد إلى بلدة وسكن الآخرون فى الأحياء
المتفرقة، ونجح الشباب فى حملتهم لكن لم يرق ذلك لبعض الجهات التى أبدت إعتراضها بحجة (أننا كلنا أبناء وطن واحد) وأن من حق هؤلاء السكن والعيش فى أى مكان وبعد فترة رجعوا إلى أماكنهم التى كانوا فيها، ومع مرور الوقت تملكوا العقارات وحولوا
إقاماتهم إلى الغردقة وأصبح أبنائهم من مواليد الغردقة …….!، كما أصبح وجودهم واقع وهم الآن جزء من التركيبة السكانية لمدينة الغردقة، ونظرا لعمليات القبض عليهم المتكررة من قبل الشرطة أصبح
لهم محامين متخصصين فى الدفاع عنهم فى قضايا التسول تصاحبهم أينما ذهبوا فى أقسام الشرطة والنيابات والمحاكم