الكاب الملكي و التاج الجمهوري
قبل أن تغادر شمس السادس و العشرين من يوليو 1952 و بعد أن أدي له الضباط المجتمعين لوداعه التحية العسكرية
وأطلقت المدفعية إحدي و عشرين طلقة تحيه له غادر الملك فاروق مصر طواعية مرتديا الكاب العسكري تاركا خلفه عرشا دام 150 عاما
هي فترة تاريخ حكم أسرة محمد علي (مؤسس مصر الحديثة) تاركا التاج الملكي أمانة في أعناق رجال الثورة ذوات الكاب العسكري
تاركا لهم دولة واسعة الأرجاء تضم مصر و السودان وجزء من فلسطين و عاصمة أشبه بلوحة فنيه شوارعها منظمة
و مبانيها منمقه مدهشة تضاهي في جمالها العواصم الأوروبية فيينا و باريس.
عاصمة ذات إقتصاد قوي قائما علي الملكية الفردية تمتلك عملة وطنية (الجنيه المصري) أعلي سعرا من الجنيه الذهب و اقوي من الجنيه الاسترليني و الدولار الأمريكي.
وعلي الجانب الآخر ترك لهم أوضاعا دستورية مترديه. و مملكة شبه مستقله تعرضت سيادتها لقيود شديدة من قبل احتلال بريطاني
احتفظ هو بالسيطرة الفعلية علي الشئون المصرية تاركا السيادة الإسمية للملك محتفظا بقواته في قاعدة قناة السويس.
مملكة كان ينعم بخيراتها طبقة خاصة للغاية من المواطنين المصريين من المتعلمين و الأثرياء و المقربين من السراي و سلطات الإحتلال!!.
وأي ما كان الأمر فقد إنطلق رجال الثورة(الضباط الأحرار) بتصحيح الأوضاع السياسية التي قادت مصر لحالة من التردي
في آواخر حكم الملك فاروق فأعادوا ترتيب أولويات الدولة المصرية فقاموا بإلغاء الملكية وأسسوا حكما جمهوريا مصرياً خالصا و
استطاعوا من خلاله إنهاء إحتلالا بريطانيا جثم علي صدور المصريين 70 عاما وإستعادوا قناة السويس و أعادوا بناء الجيش
ووقفوا بجانب حركات التحرر الوطني في العالم العربي و القارة الأفريقية وإتبعوا سياسة إقتصادية أشد إنحيازا للفقراء
فجعلوا التعليم الابتدائي إلزاميا للجميع و أعلنوا مجانية التعليم الجامعي بعد أن كان حكرا علي مجموعة محدودة
من الأعيان و قاموا بتوزيع الأراضي الزراعية علي الفلاحين. وقامت الجمهورية- في شبابها – بتأسيس البني التحتية لنهضة مصر
صناعيا فكان السد العالي و مصانع الحديد والصلب والغزل والنسيج و كذلك المصانع الحربية
وبرغم تلك الإنجازات العظيمة التي تحققت في بداية العهد الجمهوري ألا إنه أسس حكما عسكريا اعطي للقائمين علي أمر البلاد
إمتيازات سياسية و اقتصادية أكثر من تلك المسموح بها في الدول الديموقراطية.
. تلك السياسة التي فشلت في إيجاد نظام من المراقبة المدنية (البرلمان) علي الجيش و رجاله.
وكذلك فشلت الجمهوريات المتعاقبة في تأصيل مفهوم الحرية و الإعلان عن مبادئ الديمقراطية الحقيقية
وكان من تبعات ذلك تجميد المعارضة و ما كان تنظيم (الاتحاد الإشتراكي) بأي حال بديلاً
طبيعيا للتجربة الحزبية المزدهرة أيام الملكية بل كان تنظيما شموليا يقوم على مبادئ الإنتهازية
السياسة الأمر الذي لا تزال تعاني منه الحركة الحزبية حتي وقتنا هذا !!.
كذلك فشلت الجمهوريات المتعاقبة أيضا في القضاء علي التمييز بين المصريين و إعلاء قيمة المواطنة في المجتمع
لأن بناء العدالة الاجتماعية لم يكتمل بعد فالأوضاع الحالية خير شاهد علي ذلك لأنها تحمل فروقا شاسعة حولت المجتمع الي قسمين
أحدهما يمكن تسميته بمجتمع الكومباوند و الآخر يتسول العلاج وهذا خير دليل علي أننا نعاني من مجتمع مريض
مصاب بالشلل فهناك تدليل لرجال الأعمال بإسم الإستثمار في مقابل تعسف للطبقة البسيطة و التي تحملها الحكومة
بسياساتها أثمان إصلاح إقتصادي بزيادة الضرائب علي السلع و الخدمات دون فرض ضرائب تصاعدية علي أصحاب الثروة.
وما أشبه الليلة بالبارحة.. فكل هذة المعطيات الحالية تعود بنا إلي آواخر العهد الملكي. فالحاكم الجمهوري ماهو إلا ملك
في عباءة رئيس وهو يتحكم أكثر من أن يؤدي وظيفة الحاكم المنتخب وقد إعتاد الشعب تمجيده وعدم إنتقاده!!.
ولنا في الماضي عبرة فقد تعرض الحكم الفردي وكذلك مبادئ تكريس الحق الإلهي للملوك الي إنتقادات حادة إبان القرن
ال18 وأدت تلك الإنتقادات إلي إعلان إلغاء الملكية في فرنسا في سبتمبر 1792 و اعلان الجمهورية.
وأدت في يوليو 1776الي استقلال الولايات المتحدة من نير المملكة البريطانية إثر قيام الثورة الأمريكية.
وقد سقطت
عبارة (أنا الدولة.. و الدولة أنا) من قاموس العالم السياسي المتحضر تلك العبارة التي نسبها البعض الي الملك الفرنسي
لويس ال14 و التي ألقاها وهو إبن ال16 عام أمام البرلمان الفرنسي للتذكير بأولوية السلطة الملكية أمام تحدي البرلمان.
وعلي هذا فالتاج و الكاب وجهان لعملة واحدة وهي نتاج طبيعة المواطن المصري الذي إعتاد علي نظام الحكم الفردي
منذ العصر الفرعوني حتي وقتنا هذا مروراً بعهود الاحتلال المتعاقبة و عهود الخلافة الإسلامية و الولاية العثمانية.
و يري الكثيرون انه عندما ترتقي العقول بالتعليم سيناسبنا كل الأنظمة سواء كانت جمهورية تتداول من خلالها السلطة أو ملكية
دستورية يكون فيها الملك رمزا ومصدرا للتوازنات السياسية وضمانة لإستقرار الحكم.