لا يكاد يمر يوم إلا ونقرأ عن مأساة إنسانية، أو نطالع صورها سواء في المواقع الإخبارية أو مواقع التواصل الاجتماعي، وكأننا أصبحنا بالفعل نفتقر إلى كل أبجديات الإنسانية بكل ما تحمله من معان. ولا أعني فقط تلك المآسي الناجمة عن الحروب والنزاعات العرقية والطائفية في دول عدة، ولكن أيضًا التي يمارسها البعض إن لم يكن غالبية الناس من سلوكيات وممارسات في منتهى القساوة وغلظة القلب. فمنذ أيام قليلة انتشرت على موقع التواصل الاجتماعي صورة لطفلين ألقت بهما أمهما أمام منزل والدهما وتركتهما في العراء لمدة أيام، وهو الأمر الذي استنكره ربما جميع من عرفوا به، وبالرغم من قسوة الحدث وتبعاته على نفسية هذين الطفلين، إلا أنه وللأسف الشديد لم يعد بمستغرب على مجتمعنا. فكم من الجرائم اللإنسانية ترتكب كل يوم على مرأى ومسمع من الجميع دون أن يحرك أحد ساكنًا، وكأنه بات أمرًا عاديًا بل ومستساغًا أيضًا في كثير من المواقف والأوقات. إن تكرار الفعل يجعل الناس تعتاد عليه وتألفه، حتى ارتكاب بعض الجرائم وتبريرها بأي مبرارات فإنه يجعل منها أمورًا اعتيادية في أذهان الكثيرين من أفراد المجتمع، إلى الحد الذي يجعلهم قد لا يتورعون هم أنفسهم عن ارتكابها بكل أريحية ودم بارد. فما بين إلقاء بعض الآباء لأطفالهم في الشارع، وبين طرد بعض الأبناء لآبائهم المسنين من بيوتهم، أصبح الواقع مؤلم، ومخجل أيضًا لكل مفاهيم ومعاني الإنسانية التي كادت تنعدم في مجتمعنا البشري، أصبحت إنسانيتنا بالفعل على المحك مقارنة بالحيوانات التي تمتلك منها قدرًا وفيرًا. فالحيوانات لا تتخلى بسهولة عن أطفالها، كما يفعل بعض البشر الآن، كما أنها لا تهين كبارها كما هو حال بعض بني آدم. ولأن الرحمة لا تتجزأ، ومن لا يرحم حيوانًا ضعيفًا، لا يرحم أيضًا إنسانًا ضعيفًا، فنحن بحاجة ماسة إلى إعادة غرس كل القيم الإنسانية في نفوس النشء وفي نفوس جميع أفراد المجتمع بوجه عام. بالطبع ليست كل نفوس بني آدم جبلت على الخير والرحمة، وليست استجابة الجميع متساوية لنزعات الإنسانية، ولكن في كل الأحوال يمكن تحجيم الشر والجريمة بتشريع قوانين رادعة لكل من تسول له نفسه الخبيثة بارتكاب ما يكدر صفو المجتمع الإنساني، ويهدد أمنه وسلامته. والمجتمع الإنساني ليس قاصرًا على المجتمع البشري فقط، فالإنسانية لا تقتصر على التعامل برحمة مع البشر فقط ولكنها تشمل الحيوان، والطير، والحجر، والشجر أيضًا. بالطبع من السذاجة بمكان أن يتصور أي منا، أنه بإمكاننا أن تكون الحياة مثالية أو ننعم بالجنة ونحن لا نزال نعيش على الأرض، ولكن في الوقت ذاته باستطاعتنا أن نزيد من مساحات الخير والجمال في حياتنا، على الأقل حتى لا نحترق بنيران الجحيم في الدنيا والآخرة. فلم يعد أمر الانتباه للكارثة التي تحيق بالمجتمع وبنا جميًعا اختياريًا، بل بات إلزاميا وحتميًا على الجميع. كلنا يواجه خطرًا حقيقيًا، طالما الإنسانية في تراجع، فاندثارها هو عين الفساد والإفساد في الأرض، فكل الجرائم الوحشية في هذه الحالة مباحة، ولن يأمن أي منا على نفسه أو أولاده، إذا أصبحنا نعيش في مجتمع يتسم بالقسوة والغلظة في سلوكياته وممارساته اليومية مع ضعفائه من أطفال ومسنين وحيوانات عجماء لا حول لهم ولا قوة. إن أردنا النجاة قبل فوات الأوان، علينا أن نبدأ فورًا باستعادة كل قيم الرحمة والإنسانية المفقودة في حياتنا، والعمل على حث أبنائنا عليها، وممارستها كسلوك يومي حتى نعتادها، ونعود مجتمًعا إنسانيًا مرة ثانية.