كتبت : شادية الحصرى
كشف نائب رئيس الحركه الشعبيه لتحرير السودان شمال ياسر عرمان قصه كفاحه ونضاله حينما ولدت فى هذا اليوم
الخامس من اكتوبر عام ١٩٦٢، أمى وابي تمنيا لى ان أعيش حياة مريحة وان اجوب الاراضي الباردة، كانت امى (فاطمة عالم حمد)
امرأة عادية تماما مثل الماء والأرض ومن اديم الأرض جئنا.
حينما بلغت ١٦ عاما تمردت على امي واخترت طريقا لا يمر بالاراضى الباردة وانضممت للحزب الشيوعي السودانى،
لم يكن قبولى الى صفوف الحزب ممكننا فى ذلك العمر بنصوص اللائحة ولكن (عبدالحميد على) (عبدالحميد الدنقلاوي)
(عثمان جزيرة) المحترف الثورى العظيم وأحد اهم بناة الحركة التقدمية السودانية أعطى الضوء الأخضر لانضمامى
لأسباب جديرة بالحكى فى مناسبة اخرى وسوف اتطرق لها فى مقالة انوى كتابتها بعنوان (الطيب الدابي الشجرة
التى كانت وحيدة) وانتهى بي المطاف الى سجن كوبر مرتين، إحداهما لحوالي عام – مارس ١٩٨٤ – فبراير ١٩٨٥
وخرجت عشية الإنتفاضة، أصاب ذلك امي وأبي بخيبة امل واحباط مؤقت لأن (المناضل) فى ذمة أسرته مثلما السكران فى ذمة الواعي.
عندما بلغت (٢٤) عاما خالفت امي مرة اخرى وكان العام عاما من أعوام (موسم الهجرة الى الجنوب) ولحسن حظى لم يفوتنى ذلك الموسم.
كان جيلنا على موعد مع الدكتور جون قرنق دي مابيور وحبه الذى لا ينقضي، وذهبت الي أديس أبابا الموجود بها اليوم
وانضممت الي الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان، كان ذلك خارج السياق والمألوف، وخارج حسابات
امي وأبي وما هو يومي ومعتاد! وحينما اخبرت امي بنيتى وكنت أختار الكلمات المناسبة قدر المستطاع حتى لا ينكسر
قلبها مرة اخرى ادركت امي بوضوح ما قلته وكانت تتابع اهتمامى اليومى باذاعة الحركة الشعبية لتحرير السودان،
سقطت الدموع على خدود امى الجميلة ولا زلت أذكر ما قالته لي حينها (أحسن الشيوعيين بودوك السجن لكن الجنوبيين
بكتلوك) فامي كانت تفاضل بين افضل خياراتي والتى هى فى كل الأحوال كارثية بالنسبة لها، كانت صورة الجنوبي
فى ذهن امي التى رسمتها دوائر الدولة واعلامها تساوي كذبا وبهتانا بين الجنوبى
والقتل ولا تفرق بينهما وذهب الجنوب وبقى القتل ولا يزال يسجل ضد مجهول!
لاحقا بعد سنوات عديدة حكيت ذلك للدكتور جون قرنق والذي تحدث مع امي تلفونيا فى إحدى المرات، تعرفت امي
لاحقا على الجنوبيين بداخل السودان وخارجه وتبدلت صورة الجنوبى لديها بل حظيت بأحفاد يتحدثون إحدى اللغات الرئيسية
في جنوب السودان. ان العلاقات الإنسانية قابلة للتغيير إلي الافضل بفعل مجهودات البشر أنفسهم هكذا يعلمنا التاريخ الإنسانى.
امي وأبي لم يتخليا عنى مطلقا طوال رحلتي فى الحياة العامة خلال ال(٤١) عاما الماضية، حبهما لى غير مشروط
وغير مدفوع الثمن وان حزنت على شئ وواجب لم اؤديه فسيكون ذلك غيابى لمدة(٣٣) عاما منذ انضمامي
للحركة الشعبية ونحن نمر معا فى رحلة لا يمكن استعادتها مرة اخرى
ولكن خياراتنا كانت مثل جذبة الدرويش لا فكاك منها، وأشعر اليوم بالرضا عن تلك الخيارات.
لم نكف عن التمرد ولم يكف أهلنا عن حبنا ورغم ان العالم ملئ بالوجبات السريعة والبورصات وبطاقات الائتمان والتداول
المالي السريع ورغم ان الحياة قد أضحت سلعية ومعلبة فى كثير من جوانبها وغالبية الأنظمة السياسية متوحشة ولكن
حب الأمهات والاباء لا زال يقاوم وحشة الحياة ويرويها بدفء المشاعر فى وجه التطور المذهل لوسائل
التواصل الاجتماعي التي تهدم جدران الخصوصية وتدخل العلاقات الاجتماعية فى فضاء افتراضى يجعل أقوى علاقاتك
حبيسة اجهزة ذكية تحملها أينما حللت وتستهلك جل الوقت وتعيد إنتاج مشاعرك وتوجهاتك على نسق جديد.
لأن الحياة معركة عظيمة فإنني أشعر بالامتنان لكل الناس الجميلين الذين التقيتهم فى هذا العالم الفسيح و ربما لأنني
ولدت فى الستينات من القرن الماضي فلا أزال مولعا بسحرها واناقة حركاتها الاجتماعية والفكرية وأحلامها الباحثة عن عالم جديد لازال بعيد المنال.
ذات مرة قال الرسول حمزاتوف لكم تمنيت لو كانت حياتي مسودة كتاب لاصححها من جديد، وحينما اصحح
معه نسختى من كتابى الخاص لن أصحح تلك الخيارات الآنفة الذكر ولو عاد جون قرنق مرة اخرى للحياة لما تورعت ان أخذ
مقعدى فى نفس الرحلة معه وتظل الحياة معركة عظيمة