مصري في باريس
بينما تستعد القوات الفرنسية للرحيل عن مصر في عام 1801 ولد هو بصعيد مصر. وكان ينتمي الي أسرة من الأعيان افتقرت
بسبب إلغاء نظام الإلتزام و عند وفاة والده تم إرساله الي الجامع الأزهر للدراسة و
بعد تخرجه قام بالتدريس في الأزهر قبل تعينه واعظا في إحدي وحدات الجيش المصري.
و لأن محمد علي كان راغبا في إنشاء دولة حديثة فقد إهتم بالتعليم.و خاصة إن التعليم في مصر في بدايات القرن ال
19 كان هزيلا إلى حد محزن فالأزهر ذو الإعتبار و الهيبه لم يهتم بتدريس الفلسفة التي تضم العلوم الدنيوية واختفي
الجزء الذي يخص العقل في المواد الدراسية ذاتها ليحل محله تعلق ورع بفكر مؤلفي العصور السابقة و مواقف
تفضل إدراك الحقيقة حدسيا و تؤيد طرق المعرفة الذاتية.
و هكذا فرضت فكرة إرسال بعثات دراسية الي أوروبا نفسها بالتوازي مع استقدام معلمين من أوروبا وكانت إيطاليا هي قبلة
تلك البعثات وذلك في عام 1809 فمواطنو جنوه و البندقية و صقليه كانوا من أوائل الأوروبيين الذين تاجروا
مع مصر وأقاموا علي ضفاف النيل وكان رهبانهم الفرنسيسكان موجودين
في مصر منذ القرن ال16 وكانت اللغة الإيطالية هي لغة الدبلوماسية
بين الأتراك و أوروبا. وقد استطاع برناردينو دروفين قنصل فرنسا (الإيطالي الأصل) أن يقنع محمد علي بأن فرنسا هي الأفضل.
و بدءاً من عام 1826اصبحت فرنسا هي القبلة الجديدة للبعثات المصرية.
كان محمد علي يخصص هذة الدراسات الأوروبية أساسا لتلاميذ أتراك أو شراكسه أو أرمن إذ لم تشمل بعثة 1826
إلا علي اربعه مصريين من حوالي أربعين طالبا و من
بين هؤلاء المصريين كان يوجد إمام واحد في الخامسة والعشرين
من العمر. هو رفاعة الطهطاوي الذي كان مرافقا دينيا مكلفا بالوعظ و الإمامة ولم تكن له صفة طالب.
لم يتصور احد انه سيكون الشخصية الرئيسية في نهضة مصر الثقافية. وحين تم اختياره عضواً بالبعثة الدراسية بفرنسا
أوصاه معلمه الشيخ حسن العطار بأن يدون يوميات رحلته تلك و برغم قلقه
إلا أنه طمأن نفسه بذكر حديث رسول الله “اطلبوا العلم و لو في الصين”.
عند وصوله الي فرنسا أصيب الطهطاوي بصدمة( فالنساء يسرن في الشارع بلا حجاب تكشف ملابسهم عن الأكتاف
و الرقاب. إنهم يسيرون بهمة و نشاط و يأكلون بالشوكة و السكين)
استقبله مسيو جومار مدير المدرسة المصرية في باريس و الذي أشرف علي مؤلف
(وصف مصر) وقد إستقبل الإمام الشاب الملتحي و المعمم ثم قاده نحو الترجمه.
مكث الطهطاوي في فرنسا خمس سنوات لم يغادر خلالها باريس و عاش مثل باقي الطلبه داخل نطاق مغلق
ولكن أسعفه حبه للمعرفة و الإطلاع و طبعه المتشدد و موهبته و قوة ملاحظته.
لم يقتصر الشاب اليتيم القادم من الصعيد علي تعلم الفرنسية ثم ترجمة أكوام النصوص
ل(روسو – مونتسكيو – فولتير – فينيلون) إلي حد أرهق عينيه فقد كان
ينظر حواليه و يسمع و يكتب و تتناول ملاحظاته أنواع التسلية و اللهو
و العناية لدي الفرنسيين. و يكتشف الطهطاوي ورقات تطبع كل يوم اسمها (الجورنالات) انه
يقرأ تلك الصحف بشراهة في قاعات الإطلاع و يستفيد أقصي إستفاده من علاقاته
بمن حوله من شخصيات مثل (جوزيف اجوب – سيلفستر دي ساكي – كوسان بيرسفال – جوزيف رينو)
ادرك الطهطاوي
أن فرنسا تتقدم بإستمرار بفضل الإكتشافات العلمية وأنه لا يمكن إسناد
جميع أنواع المعرفة الي علوم الدين و بأنه يجب تعلم العلوم الدنيوية.
و إذا كان الطهطاوي قد تبني فكرة التمدن التي سيدافع عنها طوال حياته فإنه لم يتخلي علي الإطلاق عن معتقداته
الدينية ولكنه يري أن الإفرنج تفوقوا علي العرب في العصور الأخيرة
بفضل ما اتقنوا من علوم و ما أرسوا من قواعد العدالة وقد تأثر بشده بديموقراطية فرنسا إذ شهد تخلي الملك شارل الخامس
عن العرش للملك لوي فيليب. و قدم لقرائه ترجمة كاملة للدستور الفرنسي
و التعديلات التي أجريت عليه بعد عودة الملكية الي السلطة
و تعجب من أن هذا الدستور لا ينبع من القرآن ولا من المأثور الديني..
لم يهوي الطهطاوي الطعام الفرنسي ولم تعجبه أشجار الخريف و الشتاء المنزوعة الأوراق ويفضل ماء النيل علي ماء
نهر السين بل ظل مصرياً حتي النخاع ولا يقلد إيقاع الحياة الباريسية. واعترف بأن الفرنسيين يعرفون معني الشرف
لكنه يعيب عليهم صفة البخل و يري أن رقص الرجال و النساء في فرنسا هو فن من الفنون بخلاف الرقص علي أرض مصر
فإنه من خصوصيات النساء.و تعتبر كتاباته عن المسرح الفرنسي من أكثر الصفحات
المؤثرة في كتابه.
و يعود الإمام الي مصر حاملا معه (ذهب باريس) وفي عام 1834
صدر كتابه “تخليص الابريز في تلخيص باريز” الذي كتب مقدمته استاذه السابق الشيخ حسن العطار و أصدر الوالي
محمد على أمرا بتوزيع الكتاب مجانا علي الموظفين و تلاميذ المدارس.
وردا علي كتاب (وصف مصر) الذي صدر باللغة الفرنسية ولم يستطع المصريون
قراءته صدر كتاب (وصف فرنسا) باللغة العربية و تمت ترجمته الي اللغة التركية
ولم يصدر بعدها لي كتاب في أدب الرحلات الي أوروبا وذلك حتي عام 1855.
بعد عودته الي مصر دفع الطهطاوي ثمن الإهمال حينما شغل عدة وظائف ثانوية ولكنه اقترح علي محمد علي إنشاء مدرسة
للترجمة و تمت الموافقة على الفكرة واصبح الشاب الحائز على دبلوم فرنسي اول مدير مصري لمدرسة خاصة دون
أن يكون بجواره مدير أوروبي وأصبحت هذة المدرسة تتشابه أكثر فأكثر مع جامعة تخرج منها مترجمون أكفاء
وتمت علي يديهم ترجمة كتب عديدة وإشتقاق كلمات عربية جديدة.
كذلك أشرف الطهطاوي علي الجريده الرسمية التي منحها دفعة جديدة وجعل اللغة العربية هي الأولي بعد أن كانت التركية.
كان الطهطاوي من الداعين الي التعليم العام و حرية المرأة وقد عاني من مضايقات عديدة ونفي الي السودان
بسبب أفكاره الغربية التي ازعحت المحافظين و الطغاه ولكنه كان الأول في تمييز الوطن عن الأمة الإسلامية
لقد ذهب
الطهطاوي الي باريس حاملاً عقيدته الإسلامية وحدها و عرف كيف يحافظ
عليها في مدينة الضياع هذة لكنه عاد منها مصريا و ليس هذا بالأمر الهين.