حدث تجملت به ملامح الدنيا
تمضي الأيام وتنقضي الأعوام و تتوالي الأحداث ويقف التاريخ شاهدا علي التقلبات التي تطرأ علي العالم بين الحين و الآخر
ويجد المتأملون لهذة المتغيرات أنفسهم وقد سرحوا بخيالهم الي آفاق بعيدة حيث أن هناك من المواقف ما يسلب الألباب
و يأخذ بنواصي القلوب لأنها تخرج عن نطاق التوقعات و تنأي عن منطقية الواقع و لعل في بعض الأحداث ما يشفي الغليل
و في بعضها ما يدمي الضمائر و يوغر النفوس وفي بعضها الآخر ما يثلج الصدور ويسر الوجدان وإزاء هذا وذاك تبقي الهجرة النبوية الحدث الأعظم الذي غير مجري الأمور في العالم.
فقد دأب بعض المؤرخون غير المسلمين علي تصوير هجرة نبي الإسلام (محمد صلي الله عليه وسلم) من مكة المكرمة
الي المدينة المنورة كما لو كانت مجرد هروب لشخص كان مضطهدا في موطنه الأصلي ضاق مواطنوه به ذرعا وضاق
هو بهم ولم يعد يطيق العيش معهم فإضطر إلي الهروب اضطرارا وكأنما لم يأمره الله بالهجرة تحقيقا لمشيئة إلهية ب
الغة الحكمة حتي لا يقال :أنه إعتلي عرش الملك في موطنه ثم إنطلق منه إنطلاق الغزاه المعروفين في التاريخ الي
أجزاء أخري ونشر دينه بحد السيف إعتمادا علي القوة الغاشمة والعسف وفي ثنايا ذلك يدسون أيضا الكثير من الأكاذيب
التي تحاول أن تظهر نبي الإسلام بإعتبار أنه شخص غير سوي في دوافع سلوكه وفي وسائله وغاياته!!.
كل هذة الأكاذيب فندها القرآن الكريم وردها علي أصحابها. لقد كانت هذة الهجرة نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ
البشرية فنبي الإسلام (عليه افضل الصلاة والسلام) هو خاتم الأنبياء والمرسلين أوحي الله إليه الشريعة الكاملة للدين
الصحيح المتضمن للعقيدة السليمة الإلهية الخالدة والتي أرادها الله للناس أجمعين.. عقيدة وشريعة إلى أن يرث الله الأرض
و من عليها. فقد كانت رسالة كل رسول من رسل الله قبل ذلك قاصرة
علي قومه خاصة أما رسالة نبي الإسلام فهي موجهة إلي من الله الي البشر كافة في كل مكان وكل زمان.
هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب ينتهي نسبه الشريف إلي
سيدنا إسماعيل الابن البكر لأبي الأنبياء و المرسلين سيدنا إبراهيم..
ولد في مكة في عام ٥٧٠م وهو العام المعروف عند العرب بعام الفيل إذ حاول أبرهه علي رأس جيشه أن يهدم الكعبة
المشرفة ولكن الله إنقذها بمعجزة سماوية.. توفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب في يثرب موطن أخواله قبل مولده
و ماتت أمه آمنة بنت وهب وهو في السادسة من عمره فكفله جده عبد المطلب الذي توفي في عام ٥٧٨م و كفله بعدئذ
عمه ابو طالب حتي وفاته في عام ٦٢٠م.
عندما بلغ محمد بن عبد الله الأربعين من عمره أنزل الله عليه الرسالة
فبدأ بنشرها سرا ثم جهر بها
ودعي قومه أن يتركوا عبادة الأصنام ليعبدوا الله وحده لا شريك له الذي خلقهم
و رزقهم أما الأصنام التي كانوا يعبدونها فهي لا تنفع بل إنها تضر بهم ضرراً بليغا إذ يشركون بالله الواحد ما يزعمون
ألوهيته وهي ليست في حقيقة الأمر إلا أصناما من صنع البشر ولكن معظم قومه في مكه و ما جاورها كذبوه و
آذوه وقاوموه ولم يؤمن بدعوته إلا قليل من أتباعه الذين لم يسلموا من إضطهاد مشركو مكه.
إستمر نبي
الإسلام مقيما في مكه يتحمل المشاق في سبيل الدعوة طوال ثلاثة عشر عاما كانت حافلة بالأحداث وقد أيده الله بأن أنزل
عليه القرآن الكريم منجما معجزا لقومه مفحما لزيغهم عن الدين الصحيح و داحضا لرغبتهم في التمسك بعبادة الأصنام
مظهرا لبطلانها بأسلوب معجز ولم يجدوا سبيلا أو دليلا الي إنكار
إعجازه وإنزاله من عند الله علي خاتم الرسل (عليه الصلاة والسلام)
و وصلت محاولات كفار قريش في إلحاقهم الأذي برسول الله الي
الذروة عندما إجتمع زعماؤهم في دار الندوة و إستقر ر
أيهم علي أن يختاروا من كل قبلية من قبائل قريش شابا قويا يتقلد سيفه وأن يقتحم أولئك الشبان دار الرسول
ليضربوه ضربة رجل واحد و يتفرق دمه بين القبائل فلا يستطيع أبناء عمومته
أن يحاربوا كل القبائل ثأرا لمقتله ويرضون
بقبول الدية التي كان المشركين مستعدين لعرضها عليهم.
وجاء جبريل عليه السلام إلى الرسول و أبلغه تفاصيل مؤامرة المشركين و أمره بالهجرة من مكه إلى المدينة وفقا لمشيئة
الله و إرادته و نجح النبي في الوصول إلى المدينة يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع اول عام ٦٢٢م وإستقبله
المسلمون المهاجرين و الأنصار فرحين مستبشرين.. ومن المدينة انطلقت الفتوحات لنشر الدين الإسلامي حتي وصل
الي مغارب الصين و مشارق أوروبا وأقصي غربها و توغل حتي
وصل مجاهل أفريقيا وسمعت به الأرض من أدناها الي أقصاها.
وآمن به أكثر من المليار نسمه من سكان المعمورة.
وهكذا كانت الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ البشري
كله ولم يستطع مشركو مكه التي هاجر منها النبي وأتباعه و لم يستطع يهود المدينة التي هاجر إليها النبي وأصحابه
أن يطفئوا نور الله لأن الله يأبي إلا أن يتم نوره. وكانت الهجرة النبوية وفقا للمشيئة الإلهية منارة غمرت أنوارها كل
آفاق البشرية وكان لها شأن حاسم في ظهور الإسلام و إستمرار الدعوة إلى دين الله لكي تنطلق دعوة الإسلام بعد منعطف
الهجرة النبوية لتشمل مساحات شاسعة من أراضي العالم المعمور يغمرها حتي اليوم نور الإسلام.
ونظرا لعظم
الهجرة وأثرها في مستقبل نشر الدعوة الإسلامية فقد إتخذ منها المسلمون مناسبة يؤرخون بها أيامهم وهذا ما رآه أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب وإرتضاه المسلمين أجمعين بإعتبار أن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة علامة هامة وحدثا
مميزا في تاريخ الدعوة الإسلامية و حدثا إستثنائيا غير ملامح الدنيا إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها.