بقلم /عارف نبيه
ما أقصي الطغاه.. وما أشد ظلمهم فقد يطول حكمهم ويمتد لسنوات و سنوات الا ان لحظات سقوطهم تبدو سريعة وبلا مقدمات وبأسباب يسيرة .
فالطاغية في حكمه يشبه الجبل الرملي بإرتفاعه الشامخ وكبريائه الجاثم فوق الأرض ولكنه سرعان ما ينهار ويتفتت
الي ذرات صغيرة من الرمل لا وزن لها إذا ما تسربت تحته قطرات يسيرة من الماء!
و لا يختلف شاوسيسكو (طاغية رومانيا)كثيرا عن الطواغيت في حكمهم و في إذلالهم لشعوبهم ولكن الإختلاف الوحيد
بين هؤلاء الطغاه هو في طريقة الإذلال و كيفية السقوط.
قالوا له إن الناس يكرهونك.. فأجابهم :هذا لا يعنيني ما دام الخوف مني يملأ قلوبهم!!.
كان سقوط شاوسيسكو أشبه بحلم سريع الأحداث. وعلي الرغم من أنه رأي بعينه رموز الطغيان في بولندا و المجر وبلغاريا وكثير
من دول أوروبا الشرقية تتهاوي من حوله إلا أنه استبعد ذلك عن نفسه وراي انه شيء مختلف تماما عن غيره وأعلن
في خطاب له قبيل إعدامه :”إن التغيير سيصل الي رومانيا في حالة واحدة.. عندما تطرح أشجار الجوز العتيقة ثمار الكمثري!!.
وقد وقف شاوسيسكو يخطب تحت حراسة أمنية مشددة ولمدة
خمس ساعات مؤكدا أن رومانيا تسير قدماً في طريق الفردوس الإشتراكي!!..
عن أي فردوس يتحدث والناس هناك ضياع مشتتون ليس طلبا لقوتهم اليومي بل طلبا لما يسد حاجتهم لوجبة واحدة!!
وهذا يبدو من حال تلك السيدة التي تمكنت بعد صمود و صبر وطول إنتظار في طابور أمام إحدي المحلات لبيع البيض.
و أخيرا ظفرت ببيضتين وما إن إنصرفت حتي وقعت منها بيضة علي الأرض فجلست تلم محتويات البيضة و قد إختلطت بالتراب
و تقول إن هذا أيسر بكثير من محاولة شراء بيضة أخري!! و قس علي تلك السيدة جموع الشعب في رومانيا!!
أما عن شاوسيسكو و أعوانه فقد عاشوا حياة ترف و بذخ لا حد لها. و
كان الشعب ينظر بمرارة و حسرة الي مشروع “قصر الشعب العظيم”
وقد أوشك أن يكتمل وهو قصر الرئاسة الجديد الذي كان شاوسيسكو يأمل أن ينتقل إليه ألا إن القدر لم يمهله.
. و كان يفخر بأن مساحة هذا القصر تفوق مساحة قصر الإليزيه بباريس
ويخرج من فناء القصر طريق جديد أطلق عليه
إسم (الثورة الإشتراكية) وقد أقيم هذا القصر علي أطلال مساكن كانت تعج بعامة الشعب
.. ازيلت هذة المساكن ليقام علي أنقاضها قصر الشعب!!.
وفد ذكرت صحيفة (لاتريبيون دي جينيف) السويسرية أن عائلة شاوسيسكو تمتلك نحو 400 مليون دولار ذهبا في البنوك السويسرية
كما أن السفارة الرومانية في باريس كانت تعمل لحساب (إيلينا) زوجة شاوسيسكو لإختيار أفخر الثياب و الحلي من باريس.
الي جانب ما يملكه شاوسيسكو من قصور و إستراحات وطائرات وقطارات خاصة داخل رومانيا و الغريب انه كان مخصصا له بدلة
جديدة وحذاء جديد كل يوم من أيام السنة ويحرقان في نهاية اليوم حتي لا يرتديهما أحد من بعده!!.
لم يكن
شاوسيسكو يقبل أي نقد لنظامه حتي لو كان هذا النقد صادرا من أحد رجالاته.
في يوم السادس عشر من ديسمبر 1989 حاولت قوات الأمن المعروفة بإسم (السيكوريتات) القبض علي قس من أصل مجري
يقيم في مدينة( تيموشوارا) شمال عربي البلاد وذلك بسبب معارضته الشديدة لنظام حكم شاوسيسكو الا ان سكان المدينة منعوا
قوات الأمن من القبض عليه وتحول ذلك الي مظاهرة غاضبة تهتف بسقوط الحكومة وتطالب بالحرية.. وإتسع نطاق المظاهرات
ليشمل مدنا أخري.. تعاملت قوات الأمن مع المتظاهرين بوحشية و إشترك الجيش بمختلف أسلحته في قمع تلك المظاهرات
وسقط العديد من الضحايا وحفرت المقابر الجماعية لإخفاء تلك الجثث..
أعلن شاوسيسكو حالة الطوارئ واعطي أوامره بوقف تلك المظاهرات مهما كان الثمن وطالب حكومته بعمل مظاهرة تأييد الا أنه
و لأول مرة يسمع الهتافات التي تطالب باستقالته و محاكمته.
.
استدعي شاوسيسكو وزير دفاعه (فاسيلي ميليا). وأمره بأن يقضي علي تلك المظاهرات و لو بقتل جميع المتظاهرين..
وكان رد الوزير مفحما حينما قال :يا سيدي إن الجيش لا يستطيع قتل 23 مليون
مواطن هم عدد المتظاهرين و هم أيضا عدد سكان رومانيا!!
فصاح فيه شاوسيسكو :لقد كشفت عن وجهك الحقيقي أيها الخائن.. ووجه إليه 3 رصاصات قاتله!!
لم يكن مقتل
وزير الدفاع إلا إيذانا بإنضمام الجيش الي صفوف المتظاهرين و إزداد موقف شاوسيسكو سوءا خاصة بعد أن هاجمته
الدول الخارجية ولم يكن أمامه سوي الهرب الي مدينة (تيرجوفست) والتي تمثل المقر السري للإقامة في حالات الطوارئ.
وما إن وصل شاوسيسكو و زوجته الي هناك حتي وجدا قوات الجيش في إنتظارهما و وضعا رهن الإعتقال
وقدما الي محاكمة عاجلة وفي ال25 من ديسمبر تم الحكم عليهما بالإعدام
و إقتاد الحراس شاوسيسكو و زوجته في سيارة مصفحة الي غرفة الإعدام و قد إرتسمت علامات الشرود علي وجهه
اما زوجته فقد إنهارت تماما وإن حاولت الظهور متماسكة!!
وتم تنفيذ الحكم فيهما رميا بالرصاص و ليسدل الستار علي حياة شاوسيسكو وعائلته وعلي فترة كئيبة من تاريخ رومانيا
و ليتنفس الشعب الروماني نسيم الحرية بعد ظلم النظام الإشتراكي الذي ظل جاثما علي صدره بقيادة شاوسيسكو.